لم يتعاف العالم بعد من صدمة الفيروس التاجي، حتى يكتشف بأن هنالك فيروساً أكثر فتكاً يتفوق على كورونا بالانتشار، ويكاد يجتمع كلاهما على شعار «لا تمييز ولا اختلاف»، ولا فروقات قد تؤخر من تعرض إحدى الدول إلى الأزمة العالمية. فلم يعد العالم تلك القرية الصغيرة، بعد حلول الضيف «ثقيل الظل» عليه، إذ لعب اندلاع كوفيد- 19 دوراً صادماً في تشتيت التركيز على الموارد الاقتصادية، وإيقاف التبادلات التجارية العظمى، مضيعاً الكثير من أوراق الخطة الاستراتيجية الاقتصادية التي لم تنته من وضعها دول العالم مع انقضاء عام 2019. ففي «الحقبة الكورونية» تبقى الصورة اللاحقة لها محط أنظار مليئة بالتساؤلات الشغوفة، نازحةً للأمل حيناً وللقلق أحياناً، متطلعةً لما قد تؤول إليه الأمور مع انتهاء «سنة الأزمات»، فإما بداية طفرة إيجابية غير متوقعة، أو بداية النهاية لقطاعات ومجالات محورية متعددة، والتي بدأت من الآن بالسقوط.
في ظل ما فُقد من الحلقات المهمة في المجالات الاقتصادية، تتعاظم ضرورة تقديم خطوات عجولة ومستبقة لاستدراك ما تبقى من «المناعة الاقتصادية»، إذ يتوقع من تقديم الجهات الأكثر مسؤولية من الحكومات وخبرائها، بناء استنتاجات تجاه مستقبل بلدانهم من خلال مواجهة الواقع بكل ما يستدعيه ذلك من بذل حقيقي ملموس وسريع الجدوى، تمهيداً لفسحة العالم الممتد الجديد، التي تسوق معظم تحليلاته وأحداثه، لحتمية ما يتداوله خبراء الاقتصاد من أن أعداد القتلى التي لا يزال يخلفها فيروس (Covid -19)، ما هي إلا قشة في «كومة» الأعداد التي سيخلفها من المفلسين والعاجزين اقتصادياً، وهذه حقائق مخيفة عند تصورها مع أعداد مهولة من العاطلين عن العمل، والبضائع الكاسدة، والدول ذات الإدارة الاقتصادية المترهلة والهشة، والخسائر الفادحة في الإنتاج، والتي باتت غير قابلة للمحافظة على جمودها في الوضع الحالي، حتى وإن استغنت عن أهدافها الخلاقة في الدفع بنسبة نموها الاقتصادي، مع تلويح شبح الاقتصاد الذي يعمل فقط على ترك «إرث كوروني» أكثر رعباً في إيطاليا – على سبيل المثال - بالغاً بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي نسبة عجز 155%، والتي أرغمت دولاً أوروبية عديدة على الوقوف بالباب الصيني، منتظرةً المعونة والمساندة، في حين أنها من المفترض نظام مكتمل ذو اكتفاء شامل، ولك أن تقيس على ذلك !
وسواء استوعب العالم أن الأزمة الراهنة ليست مجرد أزمة «حرب مع الفيروس»، أم لم يستوعب، فإن هناك قضايا ستتصدر الأحداث بطبيعة أهميتها، وبخاصة بعد الخسائر الفادحة التي مست شركات الطيران في العالم، وأسعار النفط، وانهيار المبيعات في عدة أسواق، كمصدرات الهواتف الذكية، والسيارات، والمتاجر الكبرى، وبددت أرباح قطاع السفر والسياحة العالمية، التي ساهمت بنسبة 3.2 % من النمو العالمي قبل عامين. إذ يتكبد قطاع السياحة الأوروبي وحده خسارة مليار يورو كل شهر، بحسب تقديرات منظمة العمل الدولية.
إن فترة التباعد الاجتماعي التي يعيشها العالم اليوم، لابد من موازاتها بتقارب أدمغته المالية وخبرائه، وتضافر الجهود لإدارة الأزمة الاقتصادية التي تلوح في الآفاق، ورغم كل الآثار الواقعة، لا تزال هناك مؤشرات تحتاج للإنعاش لترجيح ما تحيد له عقارب البوصلة، كالنمو الاقتصادي من دول الشرق الأوسط، دافعاً بمشروع جديد يعنى بتحقيق «التوازن الاقتصادي بين الشرق والغرب»، ومشروع «الاستدامة» الذي لقننا درساً قاسياً مع هبوط أسعار النفط ليتجه لاحقاً لاستثمار مصادر «الطاقة المتجددة»، وظهور ثورة تطور في القطاع الطبي، خاصة في مجال مكافحة الأوبئة، وتوسيع قدراته وإمكاناته، إضافةً لانتهاج خطة فريدة لإنقاذ البيئة والمناخ الذي نجحت «أزمة كورونا» خلاله من حل ما لم تستطع كبرى الدول على استدراكه، من مشاكل في ثقب الأوزون ومستوى انبعاث الغازات السامة وغيرها. كما ستعيد النظر في المساحة المتاحة للعالم الرقمي في قطاعات التعليم، وتسيير الأعمال، وتحقيق الكفاءة والمرونة، وتقديم الخدمات بألوانها، فالأزمات مهما خلفت من مآسٍ، فإنها تحفر بصمة أسميها «استجابة نوازل إجبارية»، توقظ العقلانية من سباتها، وتولد تجارب من صنف «الأولى من نوعها».