نتذكر جميعاً المشكلة السياسية الكبيرة التي عانت منها إسبانيا منذ أزيد من سنتين ونصف، عندما أرادت كاتالونيا الانفصال، وما تبع ذلك من مظاهرات وتدخل للسلطات المركزية ضد منتخبين ورجالات دولة‏‭ ‬كانوا ‬يؤيدون ‬الانفصال، ‬ومَن ‬رأى ‬ذلك ‬في ‬حينه ‬ظن ‬أنه ‬يتابع ‬مسلسلاً ‬هوليودياً، ‬لأن ‬هذا ‬البلد ‬قطع، ‬منذ ‬وفاة ‬فرانكو، ‬خطوات ‬كبيرة ‬في ‬مجال ‬تثبيت ‬الديمقراطية، ‬ويعتبر ‬في ‬سلم ‬المؤشرات ‬الدولية ‬من ‬الدول ‬الديمقراطية ‬التي ‬تحترم ‬حقوق ‬الإنسان ‬والحريات ‬العامة، ‬كما ‬أن ‬هذا ‬البلد ‬يعتبر، ‬ولعقود ‬خلت، ‬نموذجاً ‬يُحتذى ‬به ‬في ‬مجال ‬اللامركزية ‬المتقدمة.
كان الكاتالونيون يريدون الانفصال عن المركز، وكانوا يفضلون الاستفادة من مداخيل وخيرات المنطقة لوحدهم، في أنانية غريبة وحب للذات وتنصل للحكومة المركزية، بل وللدولة بنفسها، وهو يعكس بجلاء ما يمكن أن تصل إليه النزعة الأنانية في الدول الديمقراطية. فالمنطقة الكاتالونية تتصرف في نصف عائدات الضرائب، وتتسلم الحكومة الإسبانية المركزية النصف الآخر، وهذا ما لم يستسغه الانفصاليون: فهم كانوا يريدون منح نسبة بسيطة منها إلى الحكومة المركزية مقابل الخدمات التي تقدمها هذه الأخيرة لها، كما أنها ترفض سياسة مساندة المناطق الغنية للمناطق الفقيرة في إسبانيا، وهذا ما يفسر في نظر العديد من المسؤولين الانفصاليين ذلك العجز الذي تعانيه ميزانية المنطقة، والوضع ما كان ليصبح بهذه الكارثية - في نظرهم - لو تم تعديل نظام ضبط الموازنات.
ولا ننسى أيضاً أن مقاطعة كاتالونيا تأوي من خلال مدينة برشلونة الساحلية، واحداً من أكبر الموانئ التجارية في الفضاء المتوسطي، وأربعة مطارات دولية، ومنشآت ضخمة للصناعات الدوائية، كما تحتضن مقرات أكبر الشركات في العالم، مثل عملاق صناعة النسيج «إنديجو».
أما اليوم، ومع جائحة كورونا، فلم تعد تسمع شيئاً من ذلك القبيل، ولا عن المظاهرات، ولا عن دعوات الانفصال.. فإسبانيا واحدة من الدول الأكثر تضرراً من الوباء (27 ألف وفاة)، وقد أغلقت حدودها البرية عقب إعلان الطوارئ في مارس. ‬وبدأت ‬البلاد ‬في ‬تخفيف ‬القيود ‬المفروضة، ‬مع ‬انخفاض ‬أرقام ‬الإصابات ‬والوفيات ‬على ‬مستوى ‬يومي، ‬إذ ‬سجلت ‬في ‬الأيام ‬الأخيرة ‬أدنى ‭ ‬أرقام ‬الوفيات ‬منذ ‬شهر ‬مارس. ‬المهم أن هذه ‬الجائحة ‬علّمت ‬وستعلم ‬الجميع ‬معنى ‬الدولة ‬الموحدة، ‬ومعنى ‬العيش ‬في ‬كنف ‬قواعد ‬المواطنة ‬للجميع، ‬ومعنى ‬مسألتي ‬الوحدة ‬والديمومة ‬في ‬العلوم ‬السياسية، ‬ومعنى ‬مصلحة ‬الجماعة.
إن كل الدراسات السوسيولوجية الحديثة لما قبل جائحة كورونا، كانت تشير إلى المرض الذي أصاب الإنسان الأوروبي، وهو التفكير في نفسه وفي محيطه الضيق، حيث لا تهمه إلا مصلحته ومصلحة هذا المحيط، ولا تهمه مصلحة الجماعة، ولا الدولة الأم. أما اليوم وغداً، فمن المؤكد أن الجميع سيفقه أنه لا يمكن العيش إلا في إطار الدولة الموحدة، وقوة السلطة المركزية الجامعة، وتقوية الثقة بين الحاكم والمحكوم داخل المجال السياسي العام. فالدولة ‬المركزية، ‬تفكر ‬برؤى ‬لا ‬تتوفر ‬عليها ‬المناطق ‬ذات ‬الحكم ‬الذاتي، ‬كما ‬هو ‬الشأن في ‬إسبانيا التي ‬تفكر اليوم ‬في ‬مصلحة ‬جميع مواطنيها، ‬وفي ‬ضرورة ‬حسن ‬توزيع ‬الثروات، ‬وتعميم ‬العلاج ‬للجميع، ‬وفي ‬الحفاظ ‬على ‬القشرة ‬الحامية ‬لوحدة ‬البلاد.
وتشير ‬الدراسات المنشورة ‬هذه ‬الأيام ‬في ‬المجلات ‬والصحف ‬الأوروبية، ‬إلى ‬أن ‬كل ‬الدول ‬مطالبة ‬في ‬فترة ‬ما ‬بعد ‬الجائحة ‬بتحقيق ‬مفهوم ‬كلمة ‬السياسة، ‬وهذه ‬الكلمة ‬محصورة ‬في ‬ثلاثة ‬اتجاهات ‬لا ‬أكثر، ‬وقد ‬جاءت ‬بها ‬المدرسة ‬الأنغلوسكسونية، ‬وسطّرها ‬فلاسفة ‬العلوم ‬السياسية ‬في ‬كتب ‬معتمدة ‬: ‬فهم ‬يميزون ‬بين ‬السياسي ‭ (‬polity‭)‬‭‬والسياسة (policy)، ‬وإذا ‬توقفنا ‬عند ‬كلمة ‬السياسي، ‬فسنرى ‬أنها ‬تحيل ‬إلى ‬السلطة ‬السياسية، ‬أي ‬حكومة ‬الناخبين ‬داخل ‬المجال ‬السياسي ‬العام، ‬أو ‬مجموعة ‬الميكانيزمات ‬التي ‬تبلور «‬وحدة» ‬و«‬ديمومة» ‬الحقل ‬الاجتماعي. ‬فالدول ‬لا ‬يمكن ‬أن ‬تقوم ‬إلا ‬على ‬مسألتي ‬الوحدة ‬وديمومة ‬المؤسسات، ‬وعلى ‬ضرورة ‬سقي ‬شرايين ‬المجتمع ‬بمحبة ‬الوطن ‬والعمل ‬من ‬أجل ‬المصلحة ‬العامة، ‬وفي ‬إطار ‬ندرة ‬الموارد ‬التي ‬نحن ‬مقبلون ‬عليها.