للأماكن رائحة الغيمة المبللة بماء السماء، عندما تمر من زقاق، أو تعبر طريقاً، أو تدخل حارة، تجد نفسك قد ولجت محيطاً من الذكريات، وتشعر أنك تعيد تنظيف مرآتك، فتتألق أمامك وجوه، وتتدفق أحداث، وتسمق مشاهد، وتصبح أنت في المكان مثل سحابة لها أصابع البيان، تشير إلى مرحلة كانت تزخر بأشواق، وتزدهر بأحداق، أضاءت لك صفحات، وخبأت في معطفك حلوى الأيام المبهرة.
للأماكن ذائقة الطفولة، تأتيك وفي جعبتها صور بعضها شائهة، وبعضها مزهاة بألوان برّاقة، توقظ فيك المارد الذي غفا ولكنه لم ينم، ولم يغط في السبات، هنا تثب أرانب الوعي، وتصحو زهرات العمر التي ربما تحسبها ذبلت، بينما هي كانت تتهيأ للحظة مباغتة، فتقفز، وترفس خمولها، وتنهض وترفع رأساً أشبه بسنابل العشب بعد هطول المطر.
تنثال على رأسك، مخيلة مثل زخات المطر، وتنهال على الذاكرة، رشات من رذاذ يغسل مرآتك، ويشذب أوراق الشجرة في فناء الوعي، تشعر أنك تولد من جديد، تتلفت، وأول ما يخطر على البال، وجه له ملامح الخلود، يشيعك بابتسامة، تتسرب بين الأضلع مثل الجدول، تشعر بالرجفة، وترتعد فرائصك ويقشعر البدن الرميم، وتصحو فيك خيول، فتغرق أنت في الصهيل، وينتابك الحنين، إلى هذا، وإلى تلك، وما بين هذا وتلك، نبتت أعشاب، وتسللت عناقيد، طالت شماريخها، وكبرت ولكنك لم تزل أنت الصبي الذي جاس في هذا الزقاق، ودار في تلك الحارة، باحثاً عن وجه، أو ابتسامة، أو رسالة وهمية، مطوية ب«كَفَرْ» أنعم من ورقة اللوز، وأنت في تقليب الصفحات، وفي المكان نفسه، وتختفي خلف هالة من الضباب الذي طواك، واحتواك، وضمك، ولمك، واستباح قدرتك على إخفاء ما يحب أن تخفيه، وتدعه يذهب مع كتلة الغبار التي أخفت حضارات، فكيف لا تخفيك، وتنفر من قسورة اللحظة المداهمة.
في المكان نفسه، هنا في زقاق قد مررت به، ومشت خطواتك على رمل اللواعج، وكبوت خوفاً من عين ما ترصد نبضات، وتعثرت بحجر كان يرقب حلمك، ونهضت، ونظرت من خلف دفعات هيضت جفنيك، ثم واصلت الطريق، كان الصديق الملهم، يحصد خوفك، بطمأنة تلملم شتاتك، وتطوقك بحنايا قلب أوسع من النجود الخضراء، وأدفأ من عش الطير.
هنا وقفت وتأملت المشهد، وكأنك في زمانك، الفتى المستلب، الناعب من مهجة تشققت قماشتها بفعل وهج أطل من موقد ناري ملتهب، توقفت، وشعرت أن قدميك، قد سلبتا إرادة السير من دون تبعثر، ولا تخثر.
هنا جال الصديق الملهم، في وعيك، وحلق، وصفق، وتدفق، وسرق منك البريق لتبقى أنت في العزلة، كهلاً يسأل عن مرحلة ما بعد الفراغ.