تفيد استطلاعات الرأي أن ثلاثين بالمائة من الوظائف الإدارية تحولت إلى «العمل عن بُعد» خلال أزمة الكورونا الراهنة، بما قد يفضي إلى تغيير جوهري في مفهوم العمل نفسه في دلالته الحديثة التي تربطه بالتمييز الجوهري بين المجال العمومي، والميدان الخصوصي الذي هو من مقومات العصور الحديثة نفسها.
صحيح أن بعض الدراسات المستقبلية كانت منذ سنوات قد بدأت تبشر بنهاية العصر المكتبي بفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي، من ربوتية وديجيتالية وشبكات تشاركية، إلا أن ما حدث مع أزمة كورونا الحالية، هو التكيف الاضطراري مع حالة الحجر الصحي التي فرضت الإغلاق المؤقت للمكاتب، وقضت على التمييز التقليدي بين المعمل والبيت.
وإذا رجعنا إلى التقسيم الثلاثي الشهير الذي تقيمه الفيلسوفة الألمانية الأميركية «حنة آرندت»، في كتابها «الوضعية الإنسانية»، بين العمل labor والحرفة work والفعل action، أمكننا القول إن مفهوم الفعل هو الذي يحدد إطار المجال العمومي، من حيث هو صياغة لعالم مشترك يقوم على التعددية الاجتماعية المنظمة، التي هي مقوم الحالة السياسية، في حين يرتبط مفهوم العمل بالاعتبارات الحيوية الأولية للإنسان، من حيث هو كائن بيولوجي، أما الحرفة فهي الجانب الصناعي التحويلي من شغل الإنسان الذي يَصدر عن خلفيات النجاعة النفعية.
وإذا كانت حنة آرندت تنتقد مركزية العمل في النشاط الاجتماعي الحديث بالقول، في نقد موجه أساساً إلى كارل ماركس، إنه أصبح يعوض مفهوم الفعل، وبالتالي يحول السياسة إلى مجرد نشاط مهني، بما يعني تمدد الميدان النفعي الخصوصي إلى الحقل العمومي.. فإن ملاحظتها كانت محصورة في نقد المجتمعات الليبرالية التي ألغت التمييز اليوناني القديم بين النشاط الحيوي البيولوجي والنشاط المدني العمومي.
إلا أن الليبرالية الحديثة احتفظت، رغم هذا الانزياح (بين العام والخاص)، بثنائية المجتمع المدني الذي هو إطار الفاعلية الإنتاجية الحرة، والدولة التي هي التعبير عن الميدان العمومي المشترك، ومن هنا وظيفة الدولة المزدوجة في ضبط صراع الإرادات الفردية الحرة، وتصحيح اختلالات الديناميكية التنافسية المفتوحة.
ما حدث في العقود الأخيرة، التي عرفت تنامي حركية العولمة الليبرالية غير المحدودة، هو مفارقة تنامي القوة الرقابية التحكمية للدول، في الوقت الذي يتزايد انسحابها من دوائر العدالة التوزيعية، بما فيها المجالات الإنسانية الحيوية، وفي مقدمتها الأمن الصحي للمواطن، الذي فشلت في ضمانه القوى الاقتصادية الليبرالية الكبرى في العالم، كما يظهر من سياساتها المرتبكة المتبعة في مواجهة أزمة فيروس كورونا المستجد.
ومن هذا المنظور، يمكن أن ننظر إلى تنامي ظاهرة العمل عن بُعد، ليس كمكسب من مكاسب الثورة التقنية الحالية التي سمحت بتقليص نفقات العمل الإداري، كما قلصت حاجيات العمل نفسه وتوقيته، وإنما باعتبارها تندرج في هذا الأفق نفسه، الذي انتبهت إليه حنة آرندت قبل نصف قرن، أي انمحاء الفاصل الجذري بين العمومي والخاص، واكتساح الحميمي الذاتي للميدان العمومي الذي هو مجال العالم المشترك والتعددية الإنسانية التوافقية الحرة.
ماذا سيكون أثر تعميم العمل عن بُعد على مفهوم السكن نفسه؛ أي البيت أو المأوى الذي هو حصن الذاتية المحمية، بعد أن أصبح مستباحاً بالكاميرات المتصلة إلكترونياً؟ وما الفرق بينه والمعمل الذي كان من قبل الهيكل الأساسي للرابطة الاجتماعية في حيويتها التضامنية، وإطاراً للتنظيم البيروقراطي العقلاني للعمل الذي هو الخاصية الكبرى ونمط شرعية الدولة المدنية الحديثة؟
في نص يرجع لبداية الخمسينيات، يميز الفيلسوف الألماني المعروف مارتن هايدغر بين مفهوم السكن ومعنى الإقامة التي لا تعني أكثر من الحصول على منزل يمضي فيه المرء بعض وقته الموزع بين العمل والحركة والراحة المؤقتة، في حين أن السكن هو نمط من الوجود الأساسي، وطريقة للعيش تقتضي علاقة عميقة بالطبيعة وبكينونة الإنسان. وفق هذا التمييز يمكن القول إن الأزمة الصحية الراهنة هي في ما وراء جوانبها الطبية والاقتصادية، أزمة سكن بهذا المعنى الجوهري الذي يقصده هايدغر. إن التحدي المطروح اليوم على الإنسانية، هو إبداع أنماط جديدة من معاشرة الطبيعة ومن الفعل الإنساني، لا تتلخص في ما يكثر الحديث عنه اليوم من الانتقال إلى الاقتصاد الحياتي النظيف والتضامني، وإنما يتجاوزه إلى توطيد المجال العمومي المشترك، وتدعيم الوظائف المؤسسية للدولة، وهي المهمة العاجلة التي تحتاجها مجتمعاتنا العربية للخروج من هذه المحنة العصيبة.