هل كان للإبحار في الصحراء دورٌ في تخلّق رؤية المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيّان «طيب الله ثراه»، لدولةٍ تختلف من حيث الفلسفة السياسية، ومنتمية من حيث الهوية لإرث إنسانها، ذكرى رحيله محطةٌ إيقاد الأسئلة والشموع، من أقصى العالم العربي إلى أقصاه، يُستدَل بها مناراتٍ في العبور إلى المستقبل بثبات، النموذج الذي قدمته الإمارات هو بقدر عزم وعزيمة إنسانها، لذا بات وقعه محسوساً إنسانياً وثقافياً، لأن مبادئ زايد هي ثوابته، وعليها ترك ذريّته وشعبه، واليوم كلهم عيال زايد.
الهوية الوطنية هي مرتكز الفلسفة التي قامت عليها الدولة، لذلك كان بناء الإنسان هو حصن مستقبلها رغم قيامها والدعوة لها في ظل ظروفٍ سياسية استثنائية، ولم يخشَ الشركاء عند تأسيسها من تلاشي الهويات الفرعية، لأن الاتحاد مكّنهم من جغرافيّتهم الوطنية باقتدارٍ يرقى لتحديات الواقع والمستقبل، رحلة تمكين الدولة والإنسان مرّت بمحطاتٍ كثيرة منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا، إلا أن الثابت الوحيد هو ريادة الدولة في التنمية المتكافئة، والبناء على ما نجح من تجارب، وذلك أهم سمات نجاحاتها، ويُعدّ ما قدمته الإمارات من دروسٍ في احتواء موجة ما سُمّي بـ«الربيع العربي» وطنياً وإقليمياً، مثالاً على اقتدار الدولة في مواجهة الأزمات.
الإحساس بمسؤولية الانتماء، في ظل رفع كفاءة منظومة العدالة الاجتماعية، هو ما حوّل الإماراتي إلى حصن، وكان إطلاق مشروع الخدمة الوطنية تحدياً أقبل عليه الإماراتيون عن قناعة، والذي كانت له آثاره الإيجابية اجتماعياً قبل دلالاته السياسية، فقد نجح ذلك البرنامج في تصحيح الكثير من السلوكيات الاجتماعية السلبية للشباب، من معالجة ظاهرة السمنة المفرطة إلى عدم الانضباط، وقد يعتقد البعض أن محاربة السمنة المفرطة أو آثارها الاجتماعية قضيةٌ فرعية، إلا أن الرجوع إلى تقارير منظمة الصحة العالمية أو تقارير تحديات التنمية الصادرة عن الأمانة العامة لمجلس التعاون، يؤكد استحالة ذلك مع تفشّي تلك الظاهرة في عموم دولنا الخليجية، أو احتواء نتائجها من أمراض مزمنة مثل السكري وضغط الدم، يبقى أن ندرك بأن 30% هو المعدّل الأدنى لانتشار ذلك في عموم مجتمعاتنا الخليجية، ولو احتُسبت تصاعدياً وتُركت دون معالجة، فستصبح مصدر تهديدٍ وجودي لعموم دولنا، دون الحاجة لمصادر تهديدٍ خارجية.
الإمارات اليوم نموذج ليس بفضل نفطها، بل نتيجة نجاحها في إدارة وتنمية مواردها الوطنية، فهي قائدةٌ في التحوّل الاقتصادي من الشكل الرّيعي إلى بديله متعدد المصادر. ويُعدّ برنامج تحوّلها في إنتاج الطاقة من الأحفوري إلى المصادر المتجددة نموذجاً بات اليوم ذا وقعٍ في أكثر من قارة، وقطاع الطاقة هو أحد القطاعات فقط، فكل أفرع العلوم الإنسانية والاجتماعية تشكّل أولوية لدى قيادة دولة الإمارات، انطلاقاً من رُسوخ ضرورة الاستثمار في الرأسمال البشري لنموّ الدولة.
لم يمسّ الراحل الكبير الشيخ زايد بن سلطان «طيب الله ثراه»، بشراً أو أرضاً إلا وغيّر من طبع الأول وخصائص الثانية، وفراسته تمتد فلسفةً متجددةً في رؤية خلفه، وقادرةً على ضمان منعة الأرض والإنسان، ويكفي الإماراتي أن «ولد زايد» هويّته والاتحاد رايته.
وأرفق اجتهاد أحد الاصدقاء في هذه الذكرى العطرة، ونحن في العشر الأواخر من رمضان، بيت شعرٍ يتيم، وهو يتيم إما لكفايته أو عدم القدرة على الإتيان بغيره:
يا سايلي عن قرم من لابة نهيّان.. زايد غدا بانعامي، حبّوه أهل الجنان.
*كاتب بحريني