ترجع من مشوارك اليومي الصباحي في شارع الحمراء الذي استعاد بعض حركته وإن بشكل محدود.. تفتح باب منزلك الصامت.. تدلف إليه (بلا رغبة). كل شيء في مكانه كالعادة، الكتب، اللوحات، الكراسي، الطاولات، المكتب، الأوراق، الأواني.
كل الأشياء في زمانها ومكانها، وحدك «الحي»، الذي ينتقل بينها. حيٌّ واحدٌ بين كل الأشياء الميتة المتراكمة المصفوفة التي رافقتك سنوات هي جزء منك، وأنت جزءٌ منها. تحس أحياناً كثيرة، وكأنك صرت من طبائعها، بل تخشى أن تصبح شيئاً من أشيائها، أن تُشيّئُكَ هذه الكائنات، أن تمتد إلى حواسك، تستمد صمتك من صمتها، وضعفك من هيمنتها، كأنما هو عصر الأشياء اليوم.
تفكر: كورونا في الخارج وأنت في الداخل، الموت في الخارج والملجأ في الداخل، أنت أعزل هكذا.. أمام شاشات التلفزيون، تشهد (وحدك) ويلات الوباء، وتقرأ أرقام ضحاياه، وتُكبر بطولة الأطباء والممرضات والمسعفين.. وأنت هنا بين هذه الأشياء «لزوم ما لا يلزم»، ديكور في مسرح بلا أشخاص، أو أشخاص بلا دور، مجرد تفصيل. لكن في جلوسك أو في وقوفك تحلم أحياناً بأن تكون بطلاً كهؤلاء الأطباء والممرضات: نعم! تحلم! لكن هيهات.. فأنت في المنقلب الآخر: هناك مسؤولون وخبراء يلعبون هذه الأدوار من الجسم الطبي إلى الأجهزة الأمنية والسياسية.. سواء كنت شاعراً أو فناناً أو عالم إنتروبولوجيا أو فيزيائياً أو أستاذ جامعة، لا يمكن أن تكون «أساسياً»؛ فالمهمة على عاتق سواك، وكل ما عليك تأدية واجب مفروض عليك، وأن تنفذ أوامر هؤلاء المعنيين كطفل مطيع، أو كروبوت دقيق. فلا أحد يطلب منك أن تكون بطلاً، أو منقذاً، أو مغامراً، أو شجاعاً، أنت فقط عليك أن تنتظر التعليمات والأوامر الجديدة، وأن تنفذ ما يطلَب منك: أن تحترم قواعد العزل وتنعزل، وإذا كان من نفع ما وحيد تؤديه فلن يكون إلا بأن تختفي لأن حضورك في الخارج يقتل. حضورك العلني يقتل، ولكي لا تكون قاتلاً، أو مقتولاً، عليك أن تبقى في بيتك بين هذه الأشياء. هنا يبدأ دورك وهنا ينتهي: مجرد إكسسوار أو رقم يتحرك على مسافة مئة متر مربع، إذا تجاوزتَه تجاوزتَ المحظور، والخطر، والمجهول.
وفي مثل هذه الأحوال المديدة، وعلى هذه المساحة المحددة، عليك أن تصنع وقتك وتتحكم به، تستخدمه كما تستخدم أي آلة (فالوقت آلة). وهنا بالذات يفترض أن تتميز، ولو نسبياً، عن «الأشياء» المكدسة حولك، تنويع المكان من تنويع الزمان، وإذا كان يمكنك أن تبحث عن ملجأ داخل هذا الملجأ المغلق، فما عليك إلا القراءة: تبحث عن كتب أو كتّاب، تستعيد هولدرلن، أو نيتشه، أو أحمد شوقي، أو ابي حيان التوحيدي، أو المتنبي أو إلياس أبو شبكة.. أو نجيب محفوظ، تقلب الصحف التي اشتريتها من المكتبة، ثم تعود الأمور إلى سابق ظلالها وثقلها ولا جدواها وعبثيتها.
وهنا تتوجه إلى الشرفة متلهفاً لرؤية كائنات حية حولك، تتلفت وترى رف حمام يجنّح يقوده مايسترو أي كشاش حمام في مكان ما، حمام من كل الألوان، ثم بضع يمامات تحط على الأسلاك أو السطوح.. وجمهرة عصافير دوري.. تتقلب وتقفز.. ثم ترى من بعيد عدة أشجار خضراء خضراء ضخمة. ما أروعها! تنظر إلى البحر، آه! ما أجمل موجه وزبده!
ثم تعود إلى الداخل، تجلس تفتح التلفزيون وتغرق في شاشاته ومحطاته وأحداثه.. هذه الآلة التلفزيونية التي تُريك ما يحدث في الخارج.. تؤكد لك، من جديد، أنك وسط كل ما يجري، «لزوم ما لا يلزم»، مجرد «زيادة عدد»، مجرد شيء من هذه الأشياء، شخص بلا أثر يُذكر.. كاتبٌ في زمن كورونا.

*كاتب لبناني