كل يوم أو أسبوع أو شهر نسمع بموت عالم فذ أو طبيب بارع أو مخترع مرموق أو غير ذلك، ممن تركوا بصمتهم في الحياة، لكنهم لم يصيبوا ثراءً ولم يحوزوا موقعاً عالياً في بلدهم أو مجتمعهم، غالباً بسبب أخلاقياتهم الصارمة وتفرغهم للعطاء والإبداع. والحال كذلك، نحن نعلم بخبر موتهم عبر إعلانات نعي متواضعة الأحجام والأعداد في الصحف، أو كخبر في أحد المواقع الإخبارية الإلكترونية، دون أن يهتم لموت هذا المبدع سوى الشريحة العلمية التي ينتمي إليها، أما فيما عداهم فلا تسمع ذكراً لذلك المبدع المتوفى.. والسبب ببساطة شديدة هو أنه افتقر لما يقدمه أهل الغنى والمال والجاه أو أهل السلطة والنفوذ، والذي يبدو أنه أصبح معياراً لنيل التعاطف والتعزية! وغالباً ما نجد أن هذه «المتلازمات» متحكمة في حجم وأعداد الإعلانات، وفي كبر حجم الجنازة، وفي بذاخة المآتم ونوعية وأعداد مرتاديها! ولعل الإمام أحمد بن حنبل، عندما قال أيام «المحنة» لخصمه القاضي أحمد بن أبي داوواد: «بيننا وبينكم الجنائز»، كان يعوّل على وعي الجماهير بتقييم الرجال وإدراكها قيمة وإبداع الشخصية وما تقدمه للناس.. وبالفعل فقد شهد جنازة الإمام أحمد عشرات الآلاف من البشر، بينما اتضح لاحقاً أن القاضي أحمد، صاحب الموقع والتأثير، لم يسر في جنازته سوى نفرٌ يسير من الناس.
ما أعظم الفارق بين الأمس واليوم! وحقاً، فإنه يؤلمني كثيراً الفارق والتمييز بين جنازة الغني والمتنفذ وبين جنازة رجل العلم أو الإبداع الفكري والأدبي. أهكذا دب التفاوت الطبقي وطغى حتى توغل في كيان المقابر، فميّز في سكان الأبدية بين سيد ومسود، غني وفقير.. وهم جميعاً عند خالقهم سواء، لا فرق بينهم ولا تفاوت بين مكاناتهم في ملكوت الله السرمدية إلا بمقدار تقوى وصلاح كل منهم وعطائه لصالح الناس والمجتمع.
إن المآتم الباذخة ومراسم الجنازات الباهظة ليست بالضرورة دليل احترام صادق للمتوفين، فكثيرون يريدون غالباً أن يظهروا للآخرين أنهم يتمتعون بمكانة اجتماعية عالية. كما لا تدل بالضرورة على التقوى الدينية، خاصة عندما يتم تحويل مناسبة جدية كهذه إلى مجرد استعراض. والإنفاق الباذخ في المآتم لا ينفع إلا الأحياء أصلا، لناحية «تبيض» وجوههم أمام المعازيم والمعزين، ولا تنفع الأموات في شيء لأنه «ليس للإنسان إلا ما سعى..». ولو تم تحويل الأموال التي يتم إنفاقها على هذه المآتم إلى صدقة جارية كبناء جامع (إن كان ذلك ضرورياً) أو بناء مشفى أو مدرسة (وهذا دوماً ضروري) لكانت أفضل وأدوم نفعاً.
ندعو لتضافر جهود الجميع في إيجاد حل يقضي بجعل المآتم (الأفراح أيضاً) أكثر تواضعاً، عن طريق تعميم وثيقة وآلية ملزمة وشاملة تتجاوز العادات والتقاليد، وتنظم مراسم مناسبة للموت والزواج. وذلك دوماً على أمل أن تعيد تداعيات ودروس جائحة فيروس كورونا الحالية بعض الرشد والاتزان والحكمة إلى عقولنا، وبالتالي إلى ممارساتنا!