ما جرى في ليبيا عام 2011 تمثل في إسقاط نظام وهدم دولة، وليس فقط إسقاط النظام السياسي الذي كان ينفرد فيه معمر القذافي بالحكم دون منازع، تقريباً. والجميع كانوا يركزون على إسقاط القذافي شخصياً، إذ هو النظام وهو الدولة معاً. وكان الأوروبيون أداة رئيسة في إسقاط نظام القذافي، وشاركت فرنسا كممثل لـ «الناتو» بشكل خاص. ولم تفكر الدول الأوروبية ولا حتى أميركا التي شاركت في الغارات الجوية ومحاصرة النظام وأعوانه، لم تفكر في ما بعد سقوط النظام وتفكيكه، وكيف سيعاد تركيب نظام جديد يعالج تبعات ذلك الزلزال.
ما نشاهده الآن من عواقب وخيمة على ليبيا، هو نتيجة التسرع في تفكيك النظام والدولة معاً، وجعل الدولة مشاعةً لفوضى عارمة، ما أدى إلى التناحر الداخلي، وباتت ليبيا طوال السنوات التسع الماضية أقرب ما تكون إلى بلد ينتحر من الداخل، عبر انقسام الإرادات، وتفكك النسيج الاجتماعي الليبي، وبقية مظاهر الحرب الأهلية المتواصلة.
والحرب الأهلية الليبية لا يمكن حسمها من طرف واحد، خاصة بعد أن أصبحت بيد الأمم المتحدة، رهينة مصالح القوى الكبرى التي لا تترك ميزان القوى يميل لطرف دون آخر، ويسلم المغلوب للغالب، أو أقلها يضطر للجلوس على الطاولة لإنهاء الحرب والخروج بصيغة توافقية. وللأسف، فإن هذه التداعيات والمآلات تنطبق على غالبية القضايا التي أُحيلت إلى الأمم المتحدة لتصبح رهينةً لذلك التوازن حتى لا يبقى لأصحاب القضية منزع في قوسهم!
الأمم المتحدة تشاهد مسرح الحرب وتتراءى لها الاختراقات واضحة، كما هو حاصل في مدينة ترهونة التي تكابد حصاراً خانقاً من قبل الميليشيات التابعة لحكومة الوفاق ناقصة الشرعية، بما يشهد على هذا التخاذل الأممي الذي يحول دون تدخل المجتمع الدولي، بينما تظهر للجميع التدخلات التركية بالسلاح والجنود والمرتزقة، في تجاوز لكل الحدود، وفي خرق سافر لحظر السلاح المفروض من مجلس الأمن الدولي.
لا يبدو هناك اكتراث من جانب الأوروبيين لحدودهم الجنوبية مع ليبيا، حيث عانت أوروبا لسنوات من قوارب الهجرة والتسلل البحري متمثلاً في تهريب المهاجرين الأفارقة إلى البر اليوناني والإيطالي، مع توالي كوارث الغرق الجماعي وجهود الإنقاذ البحري! ما نشاهده حالياً في ليبيا يعكس تجاهل الموقف الأوروبي للتفكير في ما بعد عاصفة إسقاط القذافي، العاصفة التي لحقت بليبيا وشعبها، وجعلته تداعياتها يعاني الانشقاق والتمزق تحت حكم ميليشيات «الإخوان المسلمين» في الداخل. ومما زاد على الليبيين حمولات إضافية لم يتوقعوها، تدفق المرتزقة السوريين بمختلف فئاتهم من الدواعش والتكفيريين وعناصر «القاعدة» الذين تكفل الرئيس أردوغان بتأمين نقلهم من إدلب إلى ليبيا لضمهم إلى الميليشيات التابعة لحكومة السراج!
ميليشيات «الإخوان المسلمين» تتباكى على إدلب، لتكون ملاذهم الإنساني الأخير، بعد أن استغلهم أردوغان كرأس حربة لمآربه في سوريا ودفعهم للمهالك، في مدافعته إيران وروسيا في صراع على الحصص في سوريا، وبعد ذلك ميليشيات «الإخوان» ينصاعون وهم سادرون، كالنعاج خلف المرياع، الرئيس أردوغان، ليستخدمهم جسوراً لطموحاته المتوسطية، من نفط وغاز وموانئ ليبية. ليسد خسائره في سوريا ويعوض فشله السياسي في داخل تركيا وفي الجبهة السورية.
أزمة جديدة تدخلها طرابلس، بعد توقيع تركيا وليبيا مذكرة تفاهم حول السيادة على المناطق البحرية، والتي أعلنت مصر واليونان وقبرص بحثها، نظراً لأنه ليس من صلاحيات رئيس حكومة الوفاق الليبية توقيع اتفاقيات دولية منفرداً، ولا بد من موافقة مجلس الوزراء الليبي مجتمعاً.
ووفقاً لاتفاق الصخيرات الموقع في 17 ديسمبر 2015، والذي أعطى الشرعية لحكومة الوفاق الوطني الليبية، والإطار الوحيد القابل للاستمرار، لإنهاء الأزمة السياسية في ليبيا وليس أكثر من ذلك، خاصة أن حكومة الوفاق لم يصادق عليها مجلس النواب، وهو إجراء قانوني مألوف.
ومن حيث «حكومة الوفاق» لم تحترم هذه المراسم القانونية، فقد أعلن القائد العام للقوات المسلحة الليبية المشير خليفة حفتر قبول التفويض الشعبي لإدارة شؤون البلاد وإسقاط اتفاق الصخيرات السياسي الذي تمخض عنه المجلس الرئاسي برئاسة فائز السراج، متهماً الأخير بفتح الباب أمام التدخلات الخارجية، خاصة التدخل التركي في الشؤون الليبية.
تركيا قفزت عبر البحر إلى ليبيا على بعد 1500 ميل بحري، فهل ستدرك الدول الأوروبية متأخرةً مدى خطورة ما يحدث في حدودها الجنوبية؟ العبث التركي بجعل ليبيا حاضنة للإرهاب، من «دواعش» و«قاعدة»، هذه المرة ليس بحجم خطورة قوارب الهجرة، بل هو تصدير الإرهاب وابتزاز أوروبا بأوراق خشنة للحصول على جزء من كعكة الغاز في المتوسط، وتحديداً في قبرص، إذا ما أصرت على رفضها عمليات التنقيب التركية عن الغاز في المياه الإقليمية لدولة عضو في الاتحاد الأوروبي.
ثروات ليبيا من النفط والغاز، في قلب الصراع، وتمثل عنصر جذب للقوى الإقليمية والعالمية، إذ تقدر احتياطيات ليبيا بنحو 48 مليار برميل، ونفط صخري بنحو 26 مليار برميل.
الدول الأوروبية تتصارع على ثروات ليبيا أكثر مما تهتم بالتوصل إلى حل للأزمة الليبية، والدليل ما يجري من شقاق وفراق بين إيطاليا وفرنسا في هذا الصدد.