أزمة الاتحاد الأوروبي سابقة على انتشار فيروس كورونا وتداعياته الاقتصادية. تنامت هذه الأزمة تدريجياً، وازدادت في العقد المنصرم، بسبب توسع دور المفوضية الأوروبية عقب الأزمة المالية الاقتصادية التي بدأت في 2008-2009، وفرضها إجراءات تقشف قاسية على البلدان التي طلبت مساعدتها. وأظهرت السياسة، التي اتبعتها المفوضية في معالجة تلك الأزمة، انحيازاً لم يكن واضحاً من قبل إلى التوجهات «النيوليبرالية»، بفعل تأثير القوى المالية والاقتصادية الكبرى في القارة خلال العقدين الأخيرين.
ولم يكن اتجاه بريطانيا إلى الخروج من الاتحاد المظهر الوحيد لتفاقم أزمة الاتحاد الأوروبي في العقد المنصرم، بل أكثر تجلياتها وضوحاً. لكن أهمية «البريكست» تعود إلى عاملين؛ أولهما المعنى المتضمن فيه، وهو أن استمرار أزمة الاتحاد الأوروبي يمكن أن يؤدي إلى تفككه، نتيجة خروج دول أعضاء فيه واحدة بعد الأخرى، والثاني أنه دق ناقوس إنذار، بل نذير غير مسبوق لتنبيه الدول الرئيسية فيه، والقوى المالية والاقتصادية الكبرى، إلى أن الخطر وصل إلى مستوى يفرض مراجعة أداء المفوضية الأوروبية، التي تفقد قطاعات متزايدة من شعوب بلدان عدة الثقة فيها.
لكن طريقة تعامل هذه المفوضية، التي يسميها ناقدوها «بيروقراطية بروكسل»، مع بريطانيا منذ أن اقترعت أغلبية محدودة من ناخبيها لمصلحة الخروج من الاتحاد في استفتاء عام 2017، دلت على عدم استيعابها، وكذلك الدول الأكثر نفوذاً، درس هذا الاستفتاء.
وبدلاً من الشروع في معالجة العوامل التي دفعت أغلبية الناخبين البريطانيين إلى تفضيل خيار الخروج من الاتحاد، سعت المفوضية ومن ورائها الدول الرئيسية، إلى إرغام لندن على البقاء فيه، عبر سياسة تفاوضية استهدفت رفع تكلفة هذا الخروج، ووضع البريطانيين أمام خيارين لا ثالث لهما؛ فإما التخلي عن «البريكست» والبقاء مرغمين في الاتحاد، أو تحمل تكلفة اقتصادية كبيرة، وبالتالي معاناة شديدة تجعلهم عبرة للبلدان الأخرى أعضاء الاتحاد، وتُضعف بالتالي الاتجاهات التي تطالب بالخروج في أي من هذه البلدان.
وهكذا، بلغت أزمة الاتحاد الأوروبي مستوى متقدماً عشية انتشار وباء فيروس كورونا، الذي يُرجح أن تؤدي تداعياته إلى إحباط في أوساط قطاعات أوسع من شعوب البلدان الأكثر تضرراً من هذه التداعيات، خاصة إيطاليا وإسبانيا، وربما فرنسا أيضاً. وكان تحذير مسؤولين في إسبانيا وإيطاليا من أن محنة كورونا قد تهوى بالاتحاد الأوروبي، مؤشراً على أن هذا الإحباط موجود على المستوى الرسمي، وليس في الأوساط الشعبية فقط. فقد تعامل الاتحاد مع البلدان الأكثر تضرراً بطريقة تضع الحسابات الاقتصادية والمالية فوق الصحة العامة وإنقاذ أرواح ضحايا انتشار الفيروس المُميت، ولم يقدم الدعم القوي الذي كان منتظراً من أكثر المؤسسات الإقليمية تطوراً وفاعلية في عالم اليوم. فلا يزيد كل ما تم التعهد به لمساعدة هذه البلدان، حتى منتصف الشهر الجاري، عن 1 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي لمنطقة اليورو. وقد يكفي دعم في هذه الحدود للتعامل مع حالة كسادٍ عادي أو دوري، لكنه لا يفيد كثيراً في حالة الصدمة الاقتصادية والمالية في الدول الأعضاء الأكثر تضرراً بصفة خاصة.
والأرجح أنه سيكون صعباً على قطاعات يُعتد بها من الشعوب في البلدان الأكثر تضرراً، تفهم موقف المفوضية الأوروبية السلبي تجاهها في وقت عصيب، حين كانت هذه الشعوب في أمس الحاجة إلى مساعدة عاجلة، حتى بعد أن قدمت رئيستها «أورسولا ديرلاين» اعتذاراً لإيطاليا، في الثاني من أبريل الجاري، عن «تأخر رد فعل الاتحاد». كما أن هذا الاعتذار لم يتبعه تغيير ملموس في أداء الاتحاد، إذ استمر رفض دول لم تتأثر كثيراً بتداعيات الفيروس اقتراح إصدار «سندات كورونا» لتكون آلية ديون متبادلة لتخفيف تداعيات الوباء في البلدان الأكثر تضرراً، وتوفير المعدات والمستلزمات الطبية بمعدلات أسرع، ووضع خطط مشتركة لتجاوز هذه التداعيات. لم ترغب الدول التي عرقلت الاقتراح في الالتزام بآلية ديون تستفيد البلدان الأكثر تضرراً من معظم عائداتها، ثم تتشارك دول الاتحاد في سداد هذه الديون، بوصفها مسؤولية جماعية.
وليس مستبعداً، والحال هكذا، أن تتجه قطاعات أوسع من مواطني البلدان الأكثر تضرراً إلى التفكير جدياً في جدوى الاستمرار في عضوية الاتحاد. لكن أثر هذا التطور سيحدث تدريجياً، وليس فورياً أو سريعاً، عبر أكثر من مرحلة، ما لم تؤد محنة كورونا إلى مراجعة طريقة عمل الاتحاد، والتوجهات التي تتبناها مفوضيته في تعاملها مع أعضائه.