يحاول الكثير من المختصين ومسؤولي الدول فهم وصياغة سيناريوهات لما بعد جائحة كورونا ليبنوا عليها سياساتهم العمومية المستقبلية. والمسألة صعبة وجد معقدة، خاصة أن هناك سيناريوهين اثنين لا ثالث لهما: هناك سيناريو تفاؤلي يرى أن الخروج من الأزمة قد يكون ممكناً بعد مرور أشهر معدودات، اعتماداً على قواعد «التباعد الجسدي» واحتمال الوصول إلى إيجاد علاج فعال ضد الفيروس، وهناك سيناريو تشاؤمي، وهو يتوقع أن يستمر الوباء أو أن ينقص في الأشهر المقبلة ويرجع بقساوة أكثر مع انتهاء فصل الصيف، ولربما رجعت تركيبة الفيروس متغيرة، وهو ما سيعيد المختبرات التي تحاول إيجاد الدواء واللقاح إلى خانة الصفر. وبناءً على هذا السيناريو سيحتاج التعافي الاقتصادي العالمي إلى وقت طويل، ناهيك عن التداعيات البشرية والاجتماعية والسياسية والأمنية، وارتفاع معدلات البطالة وتزايد أعداد الفقراء، ونضوب ميزانيات الدول التي ستكون ملزمةً بالتدخل المباشر في كل مناحي الحياة للسهر على ضمان السلم الاجتماعي.
المهم، للحديث عن كيفية بلورة السيناريوهات واستشراف المستقبل، لا بد أن يستحضر المختص نتائج البحث في العلوم الاجتماعية والاقتصادية قبل أن يخوض في عالم الاستشراف والمستقبليات. ولا يخفى على كل متتبع أن العلمية في العلوم الاجتماعية تتطلب من الباحث مساراً دقيقاً في الدراسة، وعليه أن يستحضر مفهوم العلم بخاصياته الأساسية الثلاث: فالعلم مركّب، بمعنى أنه تمثيلي سببي وموضوعي للحقيقة، فربط الأسباب بالمسببات مسألة حتمية في مجال العلوم أياً كانت، لذا فالالتزام بالموضوعية والحيادية أمر لا مفر منه. والخاصية الثانية هي أن نتائج العلوم أياً كانت يمكن أن تفنّد. فالعلم كما يقول ماكيافيل هو الحقيقة الفعلية للظاهرة التي تنحو نحو التأكيد. أما الخاصية الثالثة فهي أن العلم منشئ، بمعنى أن الهدف الأول والأخير لأي علم هو تنمية المجتمع والسعي الدؤوب لتطويره وتنميته.
وعلى الباحث في الدراسات الاستشرافية المستقبلية، أن ينطلق من مفهوم العلم كما هو أعلاه، ومن المرحلة الأخيرة التي يصل إليها الباحث في العلوم الاجتماعية، كي تكون له القدرة على فهم وتحليل علميين للظاهرة المجتمعية قبل أن يسبر أغوار المستقبل، لكن من خلال مرتكزات أساسية:
التحكم في المجالات التي توجه البحث مثل: التوازن الماكرواقتصادي، الحفاظ على السيولة المالية، الأمن الغذائي، الأمن الصحي، ضمان التماسك الاجتماعي، تفادي تبعات الأزمة الاقتصادية الدولية.. إلخ.
ومن مهام الباحث أيضاً اختيار بديل من البدائل المستقبلية كحل ناجع لمعضلة من المعضلات الممكنة أو لتحسين حالة من الحالات أو البدء في التأثير على مجريات الأحداث منعاً لوصول المجتمع إلى حالة أسوأ.
ويكون الهدف من البحث المستقبلي هو المساهمة في تطويق الأزمات، وتطور الإنسانية وخدمة المجتمع، تماماً كما هو شأن العلوم الاجتماعية، إلا أنه في هذا الجانب موضوع البحث، فإن الهدف الإضافي هو تفادي المعيقات التي تمنع من تحقيق مستقبل أفضل وبلورة الحلول الموصلة إلى عيش أرغد.
كما تتوزع الآراء حول مفهوم هذا النوع من الدراسات بين من يراها «علماً» ومن يراها «فناً» ومن يراها وسطاً بين العلم والفن. لذلك لخّصها الأستاذ محمد إبراهيم منصور فيما يلي: على‏‭ ‬صعيد‭ ‬العلم، ‬ثمة‭ ‬إجماع‭ ‬بين‭ ‬مؤرخي‭ ‬المستقبليات‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬هربرت‭ ‬جورج ‬ويلز، ‬أشهر‭ ‬كتّاب‭ ‬روايات‭ ‬الخيال‭ ‬العلمي، ‬هو‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬صك ‬مصطلح «‬علم‭ ‬المستقبل»‬.
يؤكد‏‭ ‬برتراند‭ ‬دي‭ ‬جوفنال ‬في ‬كتابه ‬«فن ‬التكهن» ‬أن ‬الدراسة ‬العلمية ‬للمستقبل «‬فن» ‬من ‬الفنون، ‬ولا ‬يمكن ‬أن ‬تكون ‬علماً، ‬بل ‬ويصادر ‬جوفنال‭ ‬على‭ ‬ظهور‭ ‬علم‭ ‬للمستقبل.‭ ‬فالمستقبل، ‬كما‭ ‬يقول، ‬ليس‭ ‬عالم ‬اليقين، ‬بل‭ ‬عالم‭ ‬الاحتمالات.
ويصنّف‏‭ ‬اتجاه‭ ‬ثالث‭ ‬الدراسة‭ ‬العلمية‭ ‬للمستقبل‭ ‬ضمن «‬الدراسات ‬البينية»، ‬باعتبارها ‬فرعاً ‬ناتجاً‭ ‬عن‭
تفاعل بين تخصصات مترابطة أو غير مترابطة.
‬ويؤكد‭ ‬المفكّر‭ ‬المغربي ‬المرحوم ‬مهدي‭ ‬المنجرة ‬أن‭ ‬الدراسة‭ ‬العلمية‭ ‬للمستقبل‭ ‬تسلك‭ ‬دوماً‭ ‬سبيلاً‭ ‬مفتوحاً‭ ‬يعتمد‭ ‬التفكير‭ ‬فيه ‬على‭ ‬دراسة‭ ‬خيارات‭ ‬وبدائل، ‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬شاملة‭ ‬ومنهجها‭ ‬متعدد‭ ‬التخصّصات‭، ‬وهو ‬ما ‬تحتاج ‬إليه ‬القطاعات ‬الحكومية ‬في ‬عالم ‬اليوم.


*أكاديمي مغربي