حلم البشر طويلاً بعالم يسوده التعاون من أجل حفظ السلم والأمن العالميين وتحقيق رفاهية الإنسان، لذا كانت الحروب التي أفضت إلى كوارث كبرى للبشرية نقاطاً فاصلة في الطريق إلى تحقيق هذا الحلم، فخرج الرئيس الأميركي ويلسون، عقب الحرب العالمية الأولى، بمبادئه الأربعة عشر التي تضمنت مقترحات لضمان السلام العالمي مستقبلاً، ومنها إقامة منظمة عالمية تضمن «الاستقلال السياسي والسلامة الإقليمية للدول الصغيرة والكبيرة على حد سواء»، وبالفعل نشأت عصبة الأمم في 1920، وإن كانت المفارقة أن الولايات المتحدة لم تنضم لها لرفض الكونجرس، استمراراً للإيمان بسياسة العزلة. ولأن تسويات الحرب الأولى عكست بقسوة واقع انتصار دول الحلفاء على دول المركز وعلى رأسها ألمانيا، سرعان ما بدأت هذه التسويات تتعرض للتحدي من سياسات ألمانيا النازية، إلى أن تفجرت الحرب العالمية الثانية، وقوضت العصبة معها، لتنشأ «الأمم المتحدة» على أنقاضها، وترسخ فكرة أن التغيرات الكبرى في العلاقات الدولية تفضي إلى تغيرات مماثلة في التنظيم الدولي. وربما لأن انتصار المعسكر الرأسمالي على خصمه الاشتراكي تم دون حرب عالمية جديدة، فقد صمدت الأمم المتحدة ومنظومتها، وإن لم يعن هذا أنها لا تعاني من مشكلات.
عانت الأمم المتحدة من العجز عن حل المشكلات والصراعات الكبرى التي تهدد السلم والأمن العالميين، بسبب الاستقطاب السياسي الذي انبثق أمل في إمكان تجاوزه بعد انتهاء الحرب الباردة، غير أن الأمل لم يدم طويلاً بعد استعادة روسيا فاعلية دورها، والصعود الأكيد للصين وتحالف الدولتين. وهكذا استمر، مثلاً، عجز مجلس الأمن عن حل صراعات عديدة، كتلك التي تجري على الأرض العربية، وباءت كل محاولات إصلاح مجلس الأمن بالفشل، إزاء الإصرار المتوقع من القوى الكبرى على الاحتفاظ بحق الاعتراض الذي يشل قدرته على الحسم. وحتى في القضايا التي يمكن أن تشهد وفاقاً دولياً، كقضايا التنمية الاقتصادية أو حفظ السلام أو إغاثة اللاجئين بسبب الصراعات.. لم تتمكن الأمم المتحدة من الوفاء بأجندتها بسبب أزمة التمويل التي لا تمسك بخناق الأمم المتحدة وحدها، وإنما معظم المنظمات الدولية. وفي هذا السياق أتت أزمة وباء كورونا التي يُفترض، باعتبارها خطراً يواجه البشرية جمعاء دون تفرقة، أن تعزز التعاون الدولي ودور المنظمات الدولية في مواجهتها، فإذا بالرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، كما يظهر من متابعة الأحداث.
وتظهر التطورات الأخيرة بوادر حرب باردة جديدة في الساحة الدولية بين الولايات المتحدة والصين، ولكلٍ أنصاره، بسبب الاتهامات المتبادلة بالمسؤولية عن انتشار الفيروس، مما يفاقم التوتر الدولي الذي يعقّد مهمة المنظمات الدولية، غير أن الأخطر هو أن بعض المحللين يتوقعون تحول هذه الحرب الباردة إلى مواجهة عسكرية عالمية جديدة مدمرة، من شأن حدوثها، لا قدر الله، أن يمثل نكسة هائلة جديدة للبشرية وجهودها في حفظ السلم والأمن الدوليين، وأن يفسح المجال لمرحلة جديدة من التنظيم الدولي، إن بقيت بعد هذا رغبة في تعاون. ولست من أنصار هذا الرأي، لأن الأطراف المرشحة للحرب، رغم ما يبدو أحياناً من عدم رشادة هنا وهناك، تدرك التكلفة الهائلة التي لا يمكن احتمالها للحرب، وإن كان هذا لا يمنع من تفاقم بعض مظاهر التوتر العسكري. غير أن أثر كورونا على التنظيم الدولي لن يقف بالتأكيد عند هذا الحد، وقد رأينا بالفعل وقف الولايات المتحدة تمويل منظمة الصحة العالمية، وهي المنظمة الدولية الثانية التي ينالها الغضب الأميركي بعد «اليونسكو»، والمؤكد أن المنظمات الدولية كافة، سوف تواجه في المستقبل القريب تفاقماً هائلاً في أزمة التمويل، نتيجة الخسائر الجسيمة التي لحقت بدول العالم، مما قد يؤثر في قدرتها على الوفاء بالتزاماتها الدولية.

*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة