لو أمعنت النظر في الغرف المغلقة، وتأملت المشهد الأسري في كل بيت، ستجد هناك أرواحاً تختبئ بين جدران سميكة، يخيم عليها الصمت، ويلطفها سكون المقابر. ولو حاولت التواصل مع أحدهم، فلن يأتيك الرد إلا بعد أن تكل يداك، وتشعر باليأس لأنه ما من أحد يسمع، ولا من أحد يشعر بنا يحدث خارج الجدران، لأن الكل منشغل في نفسه، والكل يغني على ليلاه.
وعندما يطل عليك أحدهم، فإنه يستقبلك بوجه واهن ومشاعر أشبه بقشور القمح المطحون، ولغة تعرقلها أفكار غامضة. تحاول أن تسترسل وتستخدم كل لغات العالم، لكي تستدرج من تحب أن ترى وجهه من دون غضون، ولكن لا جدوى لأن الجدران السميكة، اختزلت كل ما في القلوب، وحجبت الصور، والصورة وأصبح الحديث مع من عاش لساعات، في السجن الانفرادي، مثل نقنقة الدجاج في قن العزلة.
وقد ترى أطفالاً في عمر الورود، عابسين، بائسين، يائسين، خاسفي الوجه، ناسفين اللسان. وبعد محاولات يائسة، يرفع أحدهم رأسه، وينظر إليك بعينين غائمتين ويفتح جفنين ذابلين، ثم يمسك بالهاتف، ويتصل بأحد (دكاكين) الأكلات السريعة، وبعد الامتلاء بثاني أكسيد الكربون المعبأ بالدهون المعاد حرقها مرات، ومرات، يصبح هناك عود للغرف المغلقة، ويستعيد الصمت مكانته المعهودة، وتغيب الوجوه مرة أخرى، وهكذا دواليك.
وتستمر العزلة، وتزداد الوجوه بهوتاً، وترتفع درجة حرارة الأمهات، والآباء، حتى يفيض الكيل، ويعلو الصراخ، والنواح، وترتفع حالة الشكوى، والنجوى، ولا من يستجيب لأن الزمن قد تجاوز كل هذه الدرجات العالية من الاحتجاجات، ولأن الزمن أكل وشرب على مشاعر الآباء الذين استيقظوا في وقت متأخر، وقد بلغت العصيان العاطفي مبلغه الخارق، والحارق، وقد سرق الوقت كل ما قد يكون ردة فعل لما يحدث للأبناء، وقد غاص هؤلاء في اللجة، ولم يبن منهم إلا مشاعر باهتة، وعقول سرقت قدراتها، التي يجب أن تكون حاضرة كي يستعيد الصغار وعيهم، ويفهموا أن العزلة لا تورث إلا سحابة قاتمة تعمي البصر، والبصيرة، ولن يجد الصغار من قوة تمنع تدفقهم في الغرف بعيداً عن أعين الأهل، هذا ما يحدث في أغلب البيوت، وهكذا أصبحت العلاقة الأسرية في هذه الأوكار المخيفة، وهكذا برز لدينا جيل خاو، منهك المشاعر، مفكك، لا يستطيع العيش مع الآخر، مهما بذل الآخرون من جهد، لانتشاله من ورطة الزمن الراهن.
ولذلك نقول: إنه من لا يستطيع أن ينسجم مع أقرب الناس إليه، وهم الأب، والأم، فكيف به أن يخرج إلى العالم ويتواصل مع الآخر، من دون تغضنات جبين، واحتقان ضمير.
هذه معضلة، تحتاج إلى حلول جذرية، قبل أن يتسلل الضباب إلى الصدور، وينهي أجمل مشروع إنساني تبنته الدولة، ألا وهو التسامح.