كشفت جائحة فيروس كورونا (مرض «كوفيد -19») عن الكثير من الترهلات في الأنظمة والفلسفات المتبعة في رسم الخطط والاستراتيجيات، إذ يقف العالم اليوم مذهولاً من الفشل في أداء بعض الأنظمة المتصدرة سابقاً ضمن كبريات القوى الاقتصادية على مستوى العالم، وانكشاف عجزها في مواجهة التحديات، وتصدع هيكلتها الضخمة، زائدةً من حدة التأزم الذي بات يستدعي مراجعات سريعة وحلولاً بديلةً وترتيباً للأولويات.. بأقل ضرر ممكن.
وفي الوقت الذي تتركز فيه جل الأنظار على البحث عن علاج طبي سريع لهذا الفيروس الذي ينهش أرواح البشر موسِّعاً نطاقه يوماً بعد يوم، يتوسع ثقب موجع في الجسد الاقتصادي العالمي، وقد بات يعاني من أعراض مرضية قوية؛ مثل تهاوي أسعار النفط، وانهيار الأسهم في البورصة العالمية، إضافة لتعرض ما لا يقل عن 170 دولة للانكماش الاقتصادي الذي سيخلق بدوره كساداً عالمياً لم يشهده العالم منذ أن ودع «الكساد العظيم» عام 1929، كما أشار تصريح لمديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا.
ورغم القوة المالية التي تمتلكها، تعجز الدول الكبرى المتربعة على عرش الاقتصاد العالمي عن توفير الحد الكافي من الكمامات الطبية لأفراد القطاع الصحي وهم يخوضون الحرب ضد كورونا من دون ما يلزم من سلاح وعتاد! كما يواجه الآن ملايين الناس على أراضي هذه الدول شبح البطالة، إلى جانب الوباء المتفشي، ناهيك عن عجز الشركات في تحقيق أي أرباح تذكر مع نهاية العام الجاري (2020)، مع توقع الإعلان عن إفلاس 50٪ منها. وفي هذا الصدد باتت الولايات المتحدة الأميركية تتكبد أضعاف ما تكبدته الصين التي انطلقت الأزمة منها. ألا يستدعي ذلك إعادة النظر في كفاءة النظام الرأسمالي، والتمعن في قدرته على وجه الحقيقة، وبخاصة في ظل تأكيدات المحللين الاقتصاديين على أن الحل لن يكون إلا من خلال مواجهة الواقع رغم خشونته.
إن أكثر ما يميز هذه الأزمة مقارنة بما سبقها من أزمات (1929، و1987، و1998، و2008)، هو بروزها في كافة نواحي العالم، وشمولها لجميع الاقتصادات، من أكبرها لأصغرها، وقد باتت كلها أمام العاصفة أي تحت رحمة «كورونا الاقتصادية» وهي تتسلل من الإنتاج إلى التوزيع وحتى الاستهلاك، وبخاصة أن عدداً مهولاً من القطاعات يعتمد على خامات وسلع يتم استيرادها من بلدان أخرى. وكل ذلك يواجهه الاقتصاد العالمي، مع وجود تصدعات في العلاقة السياسية بين «حيتان» الاقتصاد العالمي بقطبيه الأكثر ضخامةً وتنافساً (الصين، والولايات المتحدة الأميركية)، ما يزيد من احتمالية تدهور الأمور نحو الأسوأ، ويجعل عملية الإصلاح الاقتصادي باهظًة أكثر.
وعلى ضوء التفسيرات الاقتصادية والعلمية، يبدو أن الحلول تَضيق مع «نداء الأزمة» الموجّه للعالم بأكمله هذه المرة، ومن الحلول التي قد تساعد في إدارة الدفة للنأي بها عما هو أسوأ، تَوجُّه الدول لإصدار قرارات ملزمة لاتحادات المصارف والبنوك والقوى الرئيسة التي تشكل «القبضة الحديدية» على اقتصادات الدول، ودعوتها لتشكيل مؤسسات مستدامة تضع الأصول والمعايير لترتيب وتنظيم الموارد الاقتصادية، ونسب الضخ من أموالها في السوق، وإقامة شراكات وثيقة بين القطاعات العامة والخاصة.. تداركاً لما يواجه العالم من مخاض مرتفع الوتيرة في ولادة نظام عالمي جديد محتوم، تشير له البوصلات العالمية مجتمعة.
وفي سبيل تصور أحد وجوه «العالم الجديد» تتصاعد المرجِّحات في مجال الطاقة فقط، لبروز ارتكاز قوي على أنظمة «الطاقة المتجددة»، ما سيغير صورة «الطاقة» السائدة، بمصادرها المعتادة، وبخاصة مع التوقعات التي تفيد بأنه وبحلول عام 2050 سيشكل ما نسبته من 70% إلى 80% كاستخدام لهذا النوع من الطاقة، في جنوب شرق آسيا وأميركا اللاتينية والاتحاد الأوروبي وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.. ما يزيد من التساؤلات حول تحولات أنظمة الطاقة، وانعكاساتها على باقي المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها. وهذا ما يوافق آخر تقارير الوكالة الدولية للطاقة المتجددة «آيرينا»، إذ إن تلبية نداء العالم من خلال بناء نظام اقتصادي مستدام ومرن، تعني تنسيقاً أكثر وتكاتفاً أوسع في تقديم جهود الإنعاش الاقتصادي العالمي. ذلك أن الأزمة تطلق نداءً للشراكة بين كافة القطاعات والقوى، ممثلةً في ذات الوقت بيئة غنية بالفرص.
وفي سياق تأكيد الشراكة، قدمت دولة الإمارات العربية المتحدة في الآونة الأخيرة نموذجاً ذكياً من خلال إطلاق صندوق وطني ينشر التقارير الإرشادية الناظمة لممارسة المسؤولية المجتمعية للشركات، شاملةً أفضل الممارسات المسؤولة من منظور المؤسسة والموظف والمستهلك، والحلول المبتكرة لضمان استمرارية العمل وجودته، إضافةً لوضع المبادئ التوجيهية للمؤسسات لتنفيذ مبادرات مجتمعية تدعم الموظفين والعملاء والمجتمع.