عملتُ طوال السنوات الست الماضية، وبتكليف من المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت، على تحقيق ونشر قسم من موسوعة البلاذُري التاريخية بعنوان «أنساب الأشراف»، وقبل أشهُر أصدر المعهد الألماني للأبحاث الشرقية ذلك القسم بتحقيقي بعنوان «بنو أمية 3: الخلفاء والأُمراء»، من ضمن مشروعه لنشر الموسوعة كلّها في اثني عشر مجلداً، وللبلاذُري المؤرخ (المتوفى عام 278هـ)، والمعاصر للطبري (310هـ)، مشروعان عنوان أولهما «فتوح البلدان»، ويختص بالتاريخ الاقتصادي للدولة العربية الإسلامية، ولفتوح البلدان عدة نشرات، أقدمها نشرة «دي غويه» (De Goeje) في أواخر القرن التاسع عشر، أما «أنساب الأشراف» فهو يختص بالتاريخ البشري للدولة العربية، أي كل العرب الذين كان لهم دور عسكري أو سياسي أو إداري في إقامة الدولة واستمرارها حتى منتصف القرن الثالث الهجري، وقد أقام البلاذري جينالوجيا الدولة العربية على كتاب هشام ابن الكلبي في الأنساب، أي جداول أنساب وأخبار عرب الشمال وعرب الجنوب، وقد أورد ابن النديم (المتوفّى عام 380هـ) في كتابه «الفهرست» جداول أو خريطةً للشجرة النسبية العربية في أعمال ابن الكلبي، ويتضح منها أنّ البلاذري بنى عمله في أنساب الأشراف على عمود النسب هذا، لكنْ لأنّ همَّه كان عرض الإسهام العربي في بناء الدولة، فهو لم يهتم كثيراً بالأخبار التابعة للأنساب الشديدة الاختلاف في التفاصيل؛ بل أورد بالدرجة الأولى أخبار وأعمال البطون والشخصيات العربية التي كانت لها أدوارٌ في الفتوحات أو المناصب السياسية أو الإدارية، وقد بدأ البلاذري كتابه (أو موسوعته) بسيرةٍ ممتدةٍ للرسول صلى الله عليه وسلم، وأقربائه من بني هاشم، ثم سائر بطون قريش، وكنانه، وخُزاعة، وتميم، وبخاصةٍ من تولّى الخلافة أو الإمارة منهم، وبعد أخبار مُضَر ورجالاتها، صار إلى تتبع أدوار قيس، ثم عرض بقدرٍ أقل لأخبار ربيعة. وهكذا، واستناداً إلى تقديره للدور والأهمية في بناء الدولة، جاء معظم كتابه عن عرب الشمال، باعتبارهم أصحاب الدور الأكبر في تكوين دولة العرب في القرون الثلاثة بعد ظهور الإسلام، دون أن يعني ذلك عدم الاهتمام بأخبار الأزد وهمدان وكلب، ذوي الأصول الجنوبية والأدوار البارزة في الدولتين.
وما كان لكتاب «أنساب الأشراف» من الحظ ما كان لـ«تاريخ الأمم والملوك» للطبري، فالطبري قُيّض له أن يُنشر تاريخه الكبير وتفسيره الكبير للقرآن دفعةً واحدةً لكلٍ منهما بين أواخر القرن التاسع عشر، ومطالع القرن العشرين، وعلى أعمال الطبري في التاريخ والتفسير اعتمد المؤرخون في القرن العشرين في كتابة التاريخ العربي الأول، وكتابة تاريخ التفسير القرآني، أما «أنساب الأشراف» للبلاذري، وخلال مائة عامٍ، فقد نشر مستشرقون وعرب أجزاء مختلفةً منه، تتعلق بهذه الشخصية أو تلك أو هذه الواقعة أو تلك، مثل ترجمة الإمام علي أو معاوية أو بني العباس أو أخبار الخوارج أو الدعوة العباسية أو أخبار الفرزدق! وعندما حاول بعض المهتمين بالأنساب إنجاز نشراتٍ كاملةٍ له؛ فإنّ تلك النشرات ما كانت علمية لقلة المخطوطات وتوزعها والنقص في هذا المجلد أو ذاك.
ولأنّ خريطة الكتاب وأهميته صارت واضحة؛ فإنّ المستشرقين الألمان اعتزموا قبل ثلاثين عاماً إصدار نشرةٍ علميةٍ كاملةٍ منه، وقد قسّمه علماؤهم إلى ستة أقسام صدرت في عشرة مجلدات، ومن بينها أخيراً الجزء الثالث من القسم الرابع، والذي عُهد إليّ بتحقيقه، وصدر مع فهارسه في ألف صفحةٍ من الحجم الكبير.
خطة الطبري مختلفة في كتابة التاريخ عن خطة البلاذري، مع أنّ مصادرهما واحدةٌ تقريباً، فكلاهما يعتمد على مؤلفات الأخباريين من أواسط القرن الثاني وإلى مطالع القرن الثالث، لكنّ الطبري المفسِّر والفقيه اعتبر أنّ النبوة والمُلْك كانا مقسَّمين بين الأُمم قبل الإسلام، وتوحدا في ظل الإسلام وأمة خاتم النبيين؛ وهو يكتب عن نتائج هذا التوحُّد وآثاره في تاريخ المعمورة، أما البلاذري فكان همُّه منحصراً في تشريح وإعادة بناء البنية العربية للدولة، أو صنع وإعادة تركيب السردية العربية للدولة، في عصرٍ كان الطابع العربي للدولة قد بدأ بالتراجع لصالح قادة الجيش من الديلم والترك، وكُتّاب الإدارة والوزارة من الفرس، وقد قال المتنبي من بعد: ولا تصلح عُربٌ ملوكُها عجمُ!