عبر قرنين من الزمن، أو أكثر، امتلأت الإنسانية بكبرياء مشوهة، ومشوشة، وشعر الإنسان بأنه استطاع بما امتلكه من قدرات علمية، ومادية، أن يقهر الطبيعة، وأن يتفوق على مفاجآتها، وقدراتها المخيفة.
وقد تحوّلت أنسنة الوجود، إلى ميكنة المشاعر، وهذه هي الخطوة المريعة التي حذر منها الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر، حيث صرخ بصوت عالٍ قائلاً: إن الإنسان راعي الكون، ولكن للأسف تحوّل الراعي إلى ترس في الميكنة.
الأمر الذي يجعلنا نتأمل اللوحة السوداء التي صنعتها جائحة كورونا، وحوّلت المشهد المزخرف بالفرح، إلى كتلة طينية معبأة بأنين الذين أطاحهم الوباء، وكذلك زفرة المعالجين العاجزة، وقنوط ساسة الدول العظمى، وعبوسهم، وشح قدراتهم على مواجهة ما يحدث من عصف، وخسف، ونسف، أدى إلى بروز مشاعر نافرة، ثقافة جديدة، أجهضت جل التفاؤل بإنسانية متحضرة، ومتجاوزة حدود الأنا.
اليوم يبدو المشهد مثل موجة عارمة، لا أحد يعلم إلى أين تتجه السفينة العالمية، وكيف سيكون عليه عالم الغد، وقد كشفت الجائحة، الملاءة عن جسد عالمي اخترقته شظايا الصدمة، وعبثت به نوايا خفية ما كان يعلم بها إلا أصحابها، والذين بشروا العالم بالفجر، فإذا بالخسوف يصيب شمس تفاؤلنا، وأصبحنا نقول: أين هذه العقول الفذة والذكاء الخارق؟ أينها وهي التي افتخر أصحابها بقدرتها الفائقة على هزيمة كل ما يعترضها من حوادث الزمن؟ فكائن خيالي لا يُرى بالعين المجردة، أحدث كل هذا الزلزال الرهيب، ليس لأن الإنسان ضعيف، وإنما لأن الإنسان أناني، منعزل، ممزق، مشحون بخامة رمادية أشد فتكاً من الفيروس الوبائي نفسه.
أتخيل لو أن العالم من شرقه إلى غربه، تناسى ذلك البعبع الذي يشغله، وهو التفوق على الآخر، لكان هذا الوباء أقل ضراوة من الإنفلونزا بكثير، ولسوف تخلص البشر من عذاباته منذ أكثر من شهر، ولكن للأسف، لأن التسابق حول الاتهامات، وتكريس ثقافة المؤامرة، والتخلي عن الدور الجماعي، والاعتقاد بمقولة «إذا سلمت أنا وناقتي، ما علي من رباعتي»، كل ذلك كان غذاء شهياً لوباء كورونا، وهذه الأسباب هي التي غذّت الوباء، وسمّنت فيروسه، وكبرت من أنيابه، وأطالت من مخالبه، ولن يتمكن العالم من هزيمة هذا المرض ما لم تدرك كل دولة أنها جزء من هذا العالم، وليس هي في معزل عن الخطر.