لم تكن فرنسا قد كفكفت بعد دموعها، حزناً على رحيل فيلسوفها وصانع أحد أجمل أزمنتها الكروية، المبدع والخلاق ميشيل هيدالجو الذي قدم لنا فاصلاً جميلاً في الخلق الكروي، حتى غيب الموت قطعة أخرى من الفسيفساء، الرائع الذي كانت كرة القدم الفرنسية تباهي به العالم، برحيل المدرب والنابغة روبير هيربان الذي ارتبط اسمه بنادي سانت إيتيان، الفريق الملحمي في سبعينيات القرن الماضي.
في زمن كانت الكرة الفرنسية، تلملم شتاتها وتبحث جاهدة، بمساعدة أكبر الجراحين التكتيكيين، عن مسببات المغص الكروي الذي كان يلازمها في تلك الفترة، أطل روبير هيربان «أحمر الشعر»، وفي مفكرته وصفة تكتيكية، هي الإعجاز نفسه، ستقود نادي سانت إيتيان إلى صناعة الإبهار، برغم ما كان يعاب وقتذاك على الكرة الفرنسية من علل بدنية وتكتيكية لا تضعها في سلة العمالقة.
بدأ هيربان الذي سيلقب فيما بعد بـ«أبو الهول»، نسبة إلى جديته وشموخه، مشواره الكروي وأنهاه لاعباً بسانت إيتيان، ونجح اللاعب الأشقر في إحراز عديد الألقاب مع الخضر (5 ألقاب دوري و3 ألقاب كأس فرنسا)، وبإقالة المدرب التاريخي للخضر البير باتو، سيعين هيربان وهو في سن 33، مدرباً لسانت إيتيان، ليصنع بفضل أسلوب مبتكر في التدريبات وفي اللعب، فريقاً هيمن على الكرة الفرنسية بالطول والعرض (4 ألقاب للدوري و3 ألقاب لكأس فرنسا)، ليس هذا فقط، بل إنه سيمتلك الجسارة ليجاري عمالقة أوروبا، وسيستمع العالم كله لصدى الحناجر، وهي تصدح في الملعب الأسطوري جوفري جيشار بأغنية جميلة ومعبرة يقولها مطلعها: «من هم الأقوى؟ إنهم الخضر بالطبع»، كان الملعب الفرن محرقة للجميع..هذا الفريق المشكل من باتناي ولاركي وريفيلي وسانتيني، سيقطع الكثير من الأودية الأوروبية الصعبة، من كوبنهاجن إلى إيندهوفن الهولندية، ليلاقي في النهائي التاريخي لكأس أوروبا للأندية الأبطال الفريق الأسطورة، بايرن ميونيخ بنجومه، سيب مايير وبيكنباور وهونيس ورمينيجه وجيرد مولر، وبعد مباراة ملحمية بملعب هامبدن بارك بجلاسجو في الثاني عشر من ماي عام 1976، سينهزم سانت إيتيان بهدف وحيد، وسيستقبل في حدائق الإيليزيه بباريس استقبال الأبطال، وستكتب أوروبا، وتحديداً فرنسا، بمداد من ذهب هذا الظهور الرائع للشياطين الخضر تحت إمرة أبو الهول.
لم يكن هيربان كثير الكلام ولا محباً للجلبة والضوضاء، كان يفضل أن يتحدث بلغة الإبداع من خلال ما يفعل، لذلك لم تنسه لا فرنسا التي دشن لها عهد النهضة، ولا الكرة العالمية التي غيّر الكثير في قواعدها، ولو أن انطواءه سيجعله يسلم الروح لبارئها في غفلة من الجميع، وستحول «جائحة كورونا» دون أن يشيع أبو الهول إلى مثواه الأخير، الآلاف من الذين أحبوه وعشقوا فيه حكمة الصمت.