في تعليقه على أزمة فيروس كورونا المستجد، اعتبر الاقتصادي الهندي الحائز نوبل «امارتيا سن» أن إجراءات التدخل العمومي التي اتخذتها جل دول العالم لمواجهة الآثار السلبية للوباء القاتل، تسير في المنطق الإنساني للممارسة الاقتصادية التي يجب أن يكون هدفها الأساس هو ضمان العدالة الاجتماعية التي لا تقاس ضرورةً بمعايير النمو الكمي والتوازنات المالية الكبرى. ولا تعارض من هذا المنظور بين العدالة والحرية بمفهومها الإيجابي وفق تمييز «إسحاق برلين» بين الحرية السلبية التي بلورتها المدرسة الليبرالية التقليدية (الحقوق الفردية مقابل تحكم الدولة أو سيطرة السلط الاجتماعية الأخرى) والحرية الإيجابية التي تعني تمتع الفرد بكامل الحقوق التي تؤهله لاستقلاليته وفاعليته الاجتماعية.
فإذا كان جل الأنشطة والقطاعات الاقتصادية قد تعرضت لانتكاسة خطيرة نتيجة للأزمة الحالية، كما أن أرقام النمو والدخل القومي في انخفاض خطير، والكساد على الأبواب، والمديونية تجاوزت الخطوط الحمراء، إلا أن التحدي الكبير الذي تواجهه أي حكومة مسؤولة هو حماية ملايين البشر من المجاعة والفقر والمرض، وذلك هو الرهان الحقيقي للسياسات الاقتصادية.
ولا شك أن الأزمة الراهنة كشفت بقوة عن خيوط التمايز بين العمل السياسي والتسيير الاقتصادي، في حين نادراً ما يرفع هذا الالتباس الذي يرجع للعصور الحديثة، أي قيام الدولة البيروقراطية الإدارية التي تعتمد القوانين الإجرائية إطاراً للشرعية، على اختلاف طبيعة الأنظمة السياسية.
وإذا كان الفيلسوف والقانوني الألماني «كارل شميت» قد اعتبر أن مفهوم السياسة من حيث هو سلطة إطلاقية سيادية تتمتع بحق القرار الاستثنائي، قد انحسر مع فكرة الدولة القانونية الاقتصادية، فإن بعض الدراسات التاريخية الراهنة كشفت عن الجذور اللاهوتية البعيدة لمركزية التسيير الاقتصادي في العمل السياسي. ومن هذا المنظور يبين مثلاً «جورجيو اغامبن» أن مفاهيم التسيير والحكامة الاقتصادية قد نشأت في الحقل اللاهوتي المسيحي .
ما يهمنا في هذه الملاحظة هو النتيجة المترتبة عليها في طبيعة النظر إلى الدولة القومية الحديثة التي جمعت دون إشكال بين الحياد إزاء التصورات القيمية والمعنوية الكبرى ونمط التسيير الإجرائي البيروقراطي للشأن العمومي، ومن هنا مركزية الاقتصاد في الممارسة السياسية للدولة في ما وراء الجدل حول طبيعة الخيارات التنموية.
ولقد أصبح من المعروف منذ أطروحة ماكس فيبر الشهيرة حول علاقة الرأسمالية بالأخلاق البروتستانتية، أن الخيارات العلمانية لا تعني الفصل مع الروح الدينية، بل إن هذه المقاربة الاقتصادية للشأن السياسي هي في جوهرها موجهة بخلفيات دينية لاهوتية. بل إن الفيلسوف الفرنسي «رجيس دوبريه» يذهب إلى أن ما نعرفه راهناً مع ديناميكية العولمة هو نمط من انتشار القيم البروتستانتية الاقتصادية ونفاذها إلى الحقل السياسي مثل: قيم الفردية المنتجة والشفافية المطلقة والأفقية الممتدة والسيولة المرنة..
وإذا مثلت الأيديولوجيات الاشتراكية والشيوعية المندثرة في عمقها نمطاً من الطوبائيات المسيانية (من «المسي»، أي المخلص المنتظر) ذات الخلفية اللاهوتية العميقة، ومن هنا سهولة استيعابها ضمن الأنساق الأيديولوجية الدينية (مثل حركات لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية)، فإن ما يجري اليوم يشكل امتحاناً قوياً لهذه المقاربة الاقتصادية اللاهوتية وللتصور الإجرائي التسييري للسياسة.
كان الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران الذي خَلَف في الحكم اقتصادياً بارعاً هو الرئيس جيسكار دستان، يقول إن فرنسا بحاجة إلى زعيم يقودها لا إلى خبير يديرها على طريقة الشركات بمنطق الربح والخسارة. وبالفعل كان ميتران آخر زعيم سياسي في فرنسا، شأن هلموت كول في ألمانيا الذي وحد بلاده بعد نهاية الحرب الباردة، وماو تستونغ الذي قاد عملية التحديث في الصين.. كان الثلاثة من جيل عرف الحروب العالمية ومذلة الاحتلال والهزيمة، بمعنى أنه جيل فرض عليه اتخاذ القرارات الجوهرية الكبرى التي يترتب عليها مصير بلدان ومجتمعات.
أما رجل السياسية في المجتمعات الليبرالية الحديثة فهو في غالب الأحيان خبير فني تنحصر تجربته في مجال الأعمال والتيسير البيروقراطي (كما هو شأن ماكرون وميركل مثلاً)، إن لم يكن نفذ للسياسة مباشرة من حقل الأعمال والتجارة الخاصة (كما هو شأن دونالد ترامب)، ولذا فإن نجاحه في الحقل العمومي يقاس عادة بمعايير الأداء الاقتصادي والنجاح في التسيير المالي والإداري.
ومن هنا ندرك ارتباك رجل السياسة اليوم في مواجهة الأزمة الصحية الهائلة التي يتعرض لها العالم، باعتبارها تقتضي الرجوع إلى المنطق الأصلي للسياسة من حيث هي سلطة قرار وفعل وحسم، لا مجرد تدبير إجرائي يتحول فيه الرئيس إلى أذن صاغية لخبير يدير من وراء ستار شؤون البلاد والحكم.