مع كل موسم رمضاني، يصبح المشاهد العربي على موعد مع تخمة برامجية، تطل عبر الشاشة الصغيرة، وفيها من التنوع والكثافة ما يجعلها تحوي الغث والسمين. لكن الركاكة تفرض نفسها وتحظى بأولوية التمويل والإعلان وانتقاء أوقات ذروة البث والمشاهدة، وهي التي يكون فيها جميع أفراد الأسرة أمام شاشة التلفاز.
قد تتجاور أحياناً على القناة التليفزيونية الواحدة الأعمال المتفاوتة في مستواها ومدى احترمها لعقل المشاهد. فهناك دراما جيدة تمتاز بحوارات في غاية الإدهاش والرقي بالعقل، وتلفت نظر المشاهد إلى محيطه الاجتماعي وعالمه المعاصر، بكل ما فيه من خيانات وصراعات وأكاذيب، يقابلها رسوخ القيم الإنسانية ومحاولتها الصمود أمام تقلبات وعواصف الزمن التي لا ترحم.
لكن المفارقة أن الأعمال الاستثنائية في الدراما، ذات السيناريوهات والحوارات المدهشة، لا تحظى بالشعبية والمواكبة والضجيج الإعلامي، لأن الاهتمام والرصد الإعلامي وتتبع ردود الأفعال، يكون مع الأسف من نصيب البرامج الهابطة والمكررة، سواء من حيث الفكرة والأسلوب، أو من حيث الهدف الذي لا يتجاوز العبث وجني أموال الإعلانات، ومنح الجمهور دقائق من الزيف والخوف المصطنع على وجوه الممثلين في برامج المقالب. وهي بالمناسبة برامج تعيد استنساخ أفكارها وتنطلق في كل موسم من الثقة بتكيف الجمهور مع هذا النوع من العبث المكرر.
لكن المشاهد الذكي يعرف جيداً أن هذه النوعية من الأعمال الموسمية، تشتغل على مخاطبة الباحثين عن التسلية البسيطة وغير المعقدة، من خلال إقناع المشاهد أنه على موعد مع رؤية مشاعر الفزع والاضطراب على ملامح نجومه المفضلين الذين تستأجرهم برامج الكاميرا الخفية والمقالب الملفقة للقيام بأدوار محددة، ثم يطلب من الجمهور تصديقها وعدم التشكيك في أنها تنقل الشعور الحقيقي للممثل الذي وافق على لعب دور الضحية.
نعرف كذلك أن هذه الموجة من البرامج بدأت منذ عقود طويلة في التليفزيونات الغربية، التي بدورها نقلت عدوى «الكاميرا الخفية» وبرامج المقالب إلى جميع المحطات التليفزيونية في كافة الثقافات الأخرى غير الغربية. لكن التكرار في كل عام وبهذا القدر من المراهنة على استغفال المشاهد، يجعل جزءاً من خارطة برامج رمضان التليفزيونية، واقعاً في ورطة الاستسلام لمغريات إنتاج وتسويق هذه الثيمة المستهلكة، رغم أنها قد تجاوزت صلاحياتها أكثر من كافة البرامج المعلبة الأخرى، الأخف وطأة والأقل سخرية من المشاهدين.
وهكذا نجد أن الاستخفاف بالعقل العربي يتم بشكل موسمي، بالتزامن مع قدوم شهر رمضان، من خلال ما يتم بثه من برامج، من الواضح أنها لا تزال نتاجاً لعقول تعيش في الماضي، وتذكرنا على سبيل المثال بعقد الثمانينيات من القرن الماضي! فهل يعقل أن يستمر تنفيذ تصورات برامجية تصدر عن عقول محنطة لم تستطع التكيف مع مستجدات وتحديات اللحظة الراهنة؟
إنها برامج لا تراهن إلا على وتر إدمان الجمهور للتسلية السطحية، من خلال الاستعانة بممثلين يقومون بأدوار مرسومة سلفاً، بغرض لعب دور الضحية، مقابل أجر مرتفع، تبعاً لاتفاقات مسبقة. وهذا الأداء الذي يحتفظ بسوق الإعلان، يضر بإمكانية فتح آفاق لإنتاج أفكار جديدة تحترم عقل المشاهد. على الأقل يجب الارتقاء إلى المستوى الذي بلغته أجيال اليوم، من حيث استخدام وسائط الاتصال والتقنيات الحديثة، لأن استمرار العيش في الماضي الفكاهي السطحي يدفع الأجيال الجديدة إلى البحث عن الترفيه في وسائل إعلام أخرى لا تنتمي إلى ثقافتها.
ما يرفع من سقف انتقاد مثل هذه البرامج المعلبة، ليس فقط مجرد استنساخها وتكرارها كل عام لأساليب مستهلكة في التسلية، بل هناك أيضاً الأولويات والتحديات التي تواجه المجتمعات المعاصرة، ويفترض أن تلعب وسائل الإعلام المؤثرة دوراً إيجابياً تجاهها، بدلا من سرقة وقت المشاهد وملئه بالسخافات.

*كاتب إماراتي