هذا العنوان ليس لي، بل هو عنوان كتابٍ من تأليف E. Rosenthal في ستينيات القرن الماضي؛ والعنوان الدقيق: «الإسلام في الدولة الوطنية الحديثة». ولا يفرق روزنتال بداخل الكتاب بين الوطنية والقومية، باعتبار أن نظام العالم الحديث يقوم على كياناتٍ قومية بالمعنى الإثني والثقافي لذلك؛ وهو الأمر غير الدقيق في أحيانٍ كثيرةٍ في أقطار آسيا وأفريقيا.
أهمية الكتاب، رغم قِدَمِهِ النسْبي، هي في أنه يعرض لمشكلات الدولة الوطنية في العالمين العربي والإسلامي في فترة نجاحٍ نسبي، رغم بدء الانقلابات في مصر وباكستان وسوريا. وما بدا الإسلام وقتها باعتباره مشكلةً للدولة من حيث الفكرة والإدارة. لكنّ المؤلّف لأنه، إضافةً لثقافته الاستشراقية، متخصص في القانون والعلوم السياسية، راح يتتبع التطورات القانونية والثقافية السياسية الجارية تحت السطح. وقد بدا لافتاً بالنسبة له اتجاه النخبة الثقافية المسلمة بالهند، والتي ما كانت عميقة التدين، ومنذ ثلاثينيات القرن العشرين، نحو الانفصال بدولةٍ مستقلةٍ باعتبار الإسلام هويةً قوميةً للدولة الجديدة. ثم إنّ الطريف أنّ الهندوس الذين أصروا طوال ستين عاماً على علمانية الدولة (ومثلهم الإسرائيليون)، أقبلوا من عشر سنين وأكثر على اعتبار الدين الهندوسي أو الدين اليهودي هويةً للهند ولإسرائيل. هناك ظروفٌ مستجدةٌ بالطبع؛ لكنّ التجربة الباكستانية ما كانت ناجحةً حتّى تستحق التقليد. فقد تكاثرت الانقلابات فيها، وانقسمت إلى دولتين، واشتعلت اضطراباتٌ تشبه الحروب الأهلية عدة مرات. وفي غالب الأحيان ما كان الدين هو الدافع للاضطراب، لكنّ استخدامه ظل سهلاً.
روزنتال معجبٌ بالنموذج التونسي: الإسلام دين الدولة، ولغتها هي اللغة العربية. وهذا استخدامٌ هوياتي بحت ما أثّر على مدنية الدولة. لكن هذا ليس ما حدث في باكستان والهند وغيرهما. بيد أنّ روزنتال ينسى أيضاً أنّ ذلك النهج التونسي هو الذي أنتج التيار المعروف الآن بـ«حركة النهضة».
هناك تطوران، إذن، في الدولة الحديثة في عالم الإسلام: الأول هو اعتبار الإسلام هويةً تختلط بالمشاعر والوطنية وبالتاريخ. وهذا أمر موجود لدى سائر الأمم، وإن على تفاوت. والثاني: اتجاه الهوية المتعملقة (والتي يستغلها قادةٌ شعبويون) إلى التحزب السياسي والانفصال التشريعي والمماهاة بين الدولة والهوية الدينية. وبناءً على نموذجين أو ثلاثة، اعتبر روزنتال أنّ هذا الاتجاه هو الخطر القادم. وقد صحَّ ظنه، إنما ليس بالنسبة للإسلام فقط؛ بل ولسائر الأديان وبخاصةٍ الهندوسية والبوذية واليهودية.
لا يستخدم روزنتال مصطلح: الشعبوية غير مرةٍ واحدة. لكنه يضع المسؤولية في صعود الظاهرة الدينية على النُخَب الفكرية والسياسية، ذات المشروعات الخيالية (الخلافة، ودولة الألف عام مثلاً)، أو ذات المشروعات السلطوية المباشرة المرتبطة بقيادة كارزماتية. وقد تنبأ المؤلف بأمرين، صح أحدهما ولم يصح الآخر: تنبأ بانجرافٍ باتجاه الدين في إيران (قبل ثورة الخميني بسبع سنوات)، وتنبأ ببقاء العلمانية الصافية والديمقراطية بتركيا وهو أمر لم يصح بالطبع!
ماذا يمكن فعله ليظل التلاؤم والانسجام بين الهوية وإدارة الشأن العام ممكناً في الدولة الوطنية الحديثة في عالم الإسلام؟ يجيب المؤلف من دون تردد: عندما تكون النخب الثقافية والسياسية عقلانية حتى في تنافُسها؛ فإن التوافقات تظل ممكنةً، وهو الأمر السائد في أقطارٍ إسلاميةٍ كثيرة. لكن عندما تشتد طموحات العقائديين الحزبيين، وضباط الجيش؛ فإن الأمر يصبح صعباً، وأحياناً صعباً جداً، وعلى الدين كما على الدولة.
ويختم المؤلف بالقول إن المسألة الأساسية بين الدين والدولة، تتمثل في كيف يجد المسلمون حلاً وسطاً بين مفهومين للإسلام: هل الدين قوة تعبدية وأخلاقية في دولة حديثة، أم هو تطبيق للشريعة الإسلامية في دولة دينية؟

*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية -بيروت