يعتبر محمد أركون أحد رواد الفكر العربي المعاصر وأحد أبرز أسماء الجيل الذي أعقب جيل الأوائل، أي الطهطاوي وخير الدين والأفغاني وشبلي شميل وفرح أنطون وغيرهم في القرن التاسع عشر. وهو أقرب إلى نصر حامد أبو زيد في تحليل النص ونقد الخطاب، واستخدام المدخل اللغوي لفهم النص.. اللغوي الخالص طبقاً لعلم اللسانيات، واللغوي البلاغي طبقاً للنقد الأدبي الحديث. وكلاهما يستعمل مصطلح نقد: «نقد العقل الإسلامي» عند أركون، و«نقد الخطاب الديني» عند أبو زيد، وقبلهما كان «نقد الفكر الديني» عند صادق جلال العظم.
كان أركون دمث الأخلاق لدرجة الانطواء على الذات: يفكر ويتأمل ويتساءل حول نقطة البداية: لماذا غاب مبحث الإنسان في تراثنا القديم كمبحث مستقل وليس كمجرد ملحق بالإلهيات في دراسة النفس أو بالطبيعيات في دراسة البدن وعلوم الطب؟ وكان الغرب يزهو علينا بأنه صاحب النزعة الإنسانية، وبأن التحول من الإلهيات إلى الإنسانيات أصبح من العلامات المميزة للعصور الغربية الحديثة التي أعطت الإنسانية مفهومين رئيسيين: الإنسان والتاريخ. في حين ظل الشرق في الإلهيات والخلود.
كان أركون يتكلم الفرنسية أكثر من العربية؛ فقد غادر بلده الجزائر كرد فعل على أحداث الستينيات ومظاهرات «تيزي أوزو» الأمازيغية واتهامه بأنه أحد منظريها.
وهو في باريس، لم يشارك في العمل السياسي للطلبة (اتحاد الطلاب المسلمين في شمال أفريقيا)، رغم أن الستينيات شهدت ذروة النشاط الطلابي الاحتجاجي مع حرب فيتنام وثورة الجزائر. كان الحي اللاتيني بباريس يمثل ملتقى الحركات الوطنية في العالم الثالث. لكن أركون كان مفكراً تأملياً ولم يكن مفكراً سياسياً نشطاً مثل علي شريعتي. ربما أراد تأجيل مشروعه السياسي إلى مرحلة لاحقة بعد اكتمال مشروعه النظري الفلسفي. كان لا يشارك في نشاط «سان كانز بول ميش»، لأنه كان ما يزال يبحث عن ذاته وعن أساس نظري للعمل السياسي. الوطن بالنسبة إليه مأساة القهر، والإسلام بالنسبة إليه مأساة ثانية، والقومية العربية مازالت بعيدة المنال.
كتب رسالتيه، الرئيسية والفرعية، بالفرنسية بطبيعة الحال. واستمر في الكتابة بهذه اللغة إلى أن وافته المنية. وبموافقة منه قام الصديق هاشم الصالح بترجمة أعماله إلى العربية، ودفعه ذلك لتعيينه أستاذاً للدراسات الإسلامية في جامعة باريس (الفرع الثالث). في البداية كان أركون يتقن الفرنسية أكثر من العربية، وأخيراً أتقن العربية مثل الفرنسية. الكتابة بالفرنسية كانت تعطيه جمهوراً أوسع، خاصة أنه يعيش في قلب العالم الأوروبي، لكن الغرب ظل ينظر إليه باعتباره جزائرياً مسلماً، كما يدل اسمه (محمد)، مما رده إلى وعيه الذاتي.
كان أركون فريداً في بحثه، أصيلا في منهجه، صارماً في نتائجه.. بين بحثه والبحوث الأخرى فرق نوعي. يتكلم وكأنه يخاطب المستمعين كما يفعل كبار الدعاة؛ يريد إبلاغ رسالة. يؤثر في الكل ويقنعهم بقوة حججه ووضوحها. ويتكلم ببطء حتى يطلب المستمعون المزيد. كان يستعمل مقولات جديدة في علم اللسانيات والعلوم الإنسانية الجديدة في فرنسا، مثل التمييز بين المفكَّر فيه واللامفكَّر فيه، بين ما يحدث في الوعي ويمكن التعبير عنه، وما يحدث في اللاوعي الذي يشكل الوعي دون أن يدرك المتكلم ذاته. كان يدخل في أعماق اللغة وتراكيبها بعد أن قرأ علم اللسانيات الغربي منذ جاكسون ودي سوسير حتى الأركيولوجيا المعاصرة عند فوكو.. كان يفكك الخطاب العربي عبر التاريخ، أسوةً بالتفكيكيين وفلاسفة ما بعد الحداثة.
والأهم من هذا كله انتقاله من تحليل الخطاب إلى الحكم على جوهر العقل في «نقد العقل الإسلامي» واكتشاف بنيات للخطاب هي أساس سوء استعمال اللغة حتى في فهمنا للقرآن الكريم، كما أوضح ذلك في «قراءات القرآن». فالداء في الداخل، لكن الدواء في الخارج، وهي العقلانية المتميزة عن الخطابية والإنشائية. والعلمانية بمعناها العام، فصل الدين عن الدولة وبالتالي عن النظم السياسية والاجتماعية، لكنها أيضاً تعني إخضاع الخطاب الديني للتحليل واكتشاف مكوناته الدنيوية، حيث يتجه العقل إلى العلم والظاهرة الطبيعية أو الإنسانية.
لقد استعمل أركون منهج التحليل بعد أن عاش الخطاب العربي في المركّبات والكليات حتى تاهت منه الجزئيات والتفصيلات.
عادى أركون الجماعات الإسلامية وعادته واعتبرته نموذجاً للمفكر التغريبي واعتبرها نموذجاً للتخلف في القول والعمل. قطع الصلة بينه وبينها وربط نفسه بالفكر الغربي وبالتحليل النظري الخالص. كما عادى النظم السياسية العربية التي تستعمل الخطاب الديني وتحوله إلى خطاب سياسي. وكان لها طلاب كثيرون في المغرب والمشرق العربيين، حيث كوّن مدرسة وأنصاراً وحواريين. احتفلت به تونس كنموذج للمفكر العربي الذي حمل همه في ثنايا عقله، واجتهد حتى ولو أغضب دعاة الاجتهاد.

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة