يخطئ من يعتقد أن التطور والتقدّم واللحاق بركب الحضارة العالمية وتحقيق النهضة والعبور نحو المستقبل يقتضي أن يتخلى الإنسان فرداً كان أو مجتمعاً عن قيمه وأن يتنكّر لثوابته، وأن يلبس ثوباً آخر غير ثوبه، لأن تقدم الأوطان والمجتمعات وريادتها في صناعة المستقبل مرتبطان بالقدرة على استيعاب مستجدات العصر وعلومه والاستفادة منها وتطويعها لخدمة أهدافها وتحقيق تطلعاتها، وبما ينعكس على مستوى حياة أبنائها ورفاهيتهم.
فالتقليد الأعمى وحالة الانبهار التي تحدث عند البعض تجعلهم يظنون أن مجاراة العالم المتقدم لا تتم إلا بخلع عباءة التاريخ ومقتضيات الجغرافيا والتقمص التام لكل مظاهر وأساليب الحياة التي يعيشها، بما في ذلك أنماط السلوك وطريقة التفكير والقناعات، ومن ثمّ الضرب بعرض الحائط بالإرث الديني والثقافي والحضاري باعتباره عائقاً للتطور، وسبباً للتخلف، ومانعاً من اللحاق بركب الحداثة.
في الإمارات التي تبهر العالم كل يوم بإنجازاتها وبقدرتها على استيعاب مستجدات العلوم والتكنولوجيا كافة، وتطويعها والاستفادة منها، والتي تعتبر واحدة من أسرع الدول نمواً وتطوراً على المستويين الإقليمي والعالمي، ويتمتع شعبها بواحد من أرقى مستويات المعيشة عالمياً، لا تلمس أي وجود لهذا المنظور، ولا تلحظ تأثراً بهذه النظريات، فتجد الإنسان الإماراتي يحصل على أعلى الدرجات العلمية، ويتعامل مع أحدث الأجهزة والوسائل التكنولوجية، ويتقن إدارة أكبر المؤسسات والشركات العالمية باقتدار وكفاءة تامتين، ويحتفظ في الوقت ذاته بما نشأ وترعرع عليه من قيم وعادات وتقاليد، بما في ذلك معتقداته ولغته وقيمه، وصولاً حتى إلى ملبسه ومظهره الخارجي.
صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حفظه الله، أكّد مجدداً أهمية القيم والمبادئ في مداخلة قدمها أثناء المحاضرة عن بعد، التي نظمها مجلس سموه الرمضاني، وحملت عنوان «بقيمنا نمضي نحو المستقبل»، على التلازم بين ثنائية القيم والعمل، وخصوصاً في هذا الظرف الذي يعيش فيه العالم، والإمارات كجزء منه، تحدياً كبيراً يتطلب تجاوزه والتغلب عليه أن يتلازم الإيمان والعمل معاً.. الإيمان بقيمنا الإسلامية والعمل بها، مع الحرص على التزود بالعلم الحديث والمعرفة اللذين هما طريقنا نحو المستقبل.
لنا في قيادتنا أسوة حسنة، وقدوة نسير على نهجها ونهتدي برؤيتها التي توضح لنا معالم الطريق الصحيح الذي يحقق السير فيه لنا السعادة والرضا، وحين تؤكد هذه القيادة أهمية الموازاة والربط ما بين الإيمان والعمل، فإن ذلك يشكل حافزاً لنا على التمسك بالقيم التي نهلناها من مدرستها الإنسانية والأخلاقية، وفي مقدمتها قيم الدين الإسلامي الحنيف وما حث عليه من اعتدال وتسامح وتعاون وتكافل وتراصّ في الصفوف، وأن نحرص على بذل أقصى جهودنا لنكون أعضاء فاعلين ومؤثرين في مسيرة وطننا، وفي المسيرة الإنسانية برمتها.
لقد أثر العرب والمسلمون بشكل فاعل في الحضارة الإنسانية، وكانت لهم بصماتهم الواضحة وإبداعاتهم وابتكاراتهم غير المسبوقة في كل جوانب العلوم والمعرفة، وهي إنجازات لم تكن وليدة الصدفة، ولم تتم بمعزل عن الإرث الإنساني الذي تراكم على مرّ العصور والدهور، فقد ترجم العرب العلوم والشعر والأدب من الثقافات الأخرى واستفادوا منها، وبنوا عليها، وأضافوا إليها، وأثروا فيها، وتأثروا بها في إطار العلم وضمن حدود الاختصاص، غير أنهم لم ينقلبوا على ثوابتهم، ولم يتخلوا عن قيمهم ولم يغيروا معتقداتهم، ولم يبادروا إلى اعتناق أفكار الآخرين وتبني أنماط حياتهم، بل احتفظوا بخصوصيتهم وتمسكوا بقيمهم وعاداتهم وتقاليدهم، وواصلوا التفاعل والتكامل مع غيرهم من أبناء البشرية، لما فيه صالح الجميع وخيرهم، ودولة الإمارات تبنّت هذا النهج، وسارت على هذا الطريق وستواصل، وستظل لها دائماً شخصيتها المتميزة، وصورتها الناصعة، دولة متحضرة متطورة، متمسكة بقيمها وإرثها الديني والأخلاقي والثقافي.
*عن نشرة «أخبار الساعة» الصادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية.