يستمر الجدل المتزايد في الأدبيات العالمية حول ما إذا كان وباء كورونا سيخلّف لنا نظاماً عالمياً جديداً، أم أنه مرحلة عابرة نعود بعدها للنظام القديم القائم حالياً.. فماذا تقول تجربة شهر رمضان الفضيل الحالي في ضوء هذا الجدل؟
إذا كان هناك من سمة جديدة لشهر رمضان الجاري، فلا شك أنها سمة التغيير. نستطيع أن نتفق، دون القيام بمسح اجتماعي للتحقق من ذلك، على أن رمضان هذا العام شهر مختلف. فرمضان أصلا بالنسبة لنحو ملياري مسلم في العالم، هو شهر التلاقي والتجمع، حتى بين هؤلاء المتباعدين عادة، وكما نقول بالدارجة فهو موسم «اللمة»، داخل الأسرة وخارجها. كما أنه مناسبة لتجميع المسلمين من خلال الذهاب للعمرة في مكة المكرمة ولزيارة المدينة المنورة.. وكل ذلك تقريباً لم يحدث في رمضان الحالي. لذلك نتفق دون جدال على أن رمضان هذا العام مختلف بالنسبة للأفراد والمجتمعات والعالم الإسلامي ككل.. والسبب معروف: وباء كورونا.
ومن هنا تشعر بالدهشة بعض الشيء عندما ترى في كتابات المخضرمين عالمياً أن العالم لن يتغير وسيستأنف حياته كأن كورونا لم يحدث! ولنأخذ مثالا من مجلة «الشؤون الخارجية» (فورين بوليسي) الأميركية، وهي من أقدم الدوريات السياسية وأكثرها عراقة وتأثيراً، والتي يكتب فيها كبار الأكاديميين ومشاهير الساسة من رؤساء ووزراء وسفراء، أميركيين وغير أميركيين. قد لا يتذكر كثيرون أن سياسة احتواء الاتحاد السوفييتي والشيوعية العالمية، والتي أصبحت الاستراتيجية الدائمة للولايات المتحدة طوال فترة الحرب الباردة، بدأت كمقال في مجلة «الشؤون الخارجية» سنة 1947. كان العالَم في ذلك الوقت في بداية انقسامه بعد أن تفرّق حلفاء الأمس ضد ألمانيا النازية، وأصبح يفصلهما «الستار الحديدي»، كما وصفه حينئذ رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل. كان الغرب وهو في مواجهة الأخطبوط الشيوعي بحاجة لاستراتيجية عامة، فجاءت تلك الاستراتيجية في المقال المذكور وبقلم دبلوماسي أميركي صغير في السفارة الأميركية بموسكو، هو جورج كينان الذي اقترح سياسة الاحتواء لتصبح أساس «حلف شمال الأطلسي» (الناتو) سنة 1949 وانقسام العالم إلى كتلتين.
وتستمر دورية الشؤون الخارجية في تأثيرها العالمي في فترة كورونا، وذلك بواسطة مقال رئيس مجلس الشؤون الخارجية والمؤلف الشهير السفير ريتشارد هاس، وهو مقال يتداوله حالياً العديدون وقد أصبح محل اهتمام إعلامي عالمي يليق بالدورية وبمكانة الكاتب نفسه. يقول هاس إن محنة كورونا، رغم أهميتها، قد تسرع بالتاريخ، لكنها لن تُغيره.
وفعلا في منطقتنا، سيستمر الصراع في سوريا وليبيا وقد تظهر صراعات مماثلة في العراق أو السودان، لكن هل سيستمر الجميع، خاصة خارج هذه الحالات، في الاعتقاد بأن التهديد الأكبر هو التهديد العسكري فقط، أم سيدركون أن هناك تهديدات أعم وأكثر شراسة وأشد صعوبة بدأت تهدد الكل؟
هذا هو السؤال المطلوب تقديم إجابة عليه: هل ستستمر القوى الكبرى، خاصة أميركا وروسيا والصين، في التفكير فقط حول معادلات القوة بينها، أم ستدرك أن الأمن والأمان يرتبطان أكثر ليس فقط بمعدلات القوة ولكن بالتهديدات الجديدة ومصادرها؟ إذا تغير نمط التفكير من التركيز على القوة العسكرية أو الاقتصادية الفردية للتركيز بدلاً من ذلك على مصدر الخطر الذي قد يطيح بكل هذه القوة، كما يبدو في ظل التحدي الفيروسي الحالي، فقد يتغير فهمنا لديناميكيات العلاقات الدولية، بل قد يؤدي هذا إلى تغير في ممارسة العلاقات الدولية نفسها. بمعنى أن شراسة التهديد المشترك وصعوبة مواجهته، كما هو الحال مع كورونا، قد يؤدي إلى إعادة تعريف الأمن: الأمن لا يتحقق عن طريق المواجهة مع الآخر، بل بالعمل معه.
وجود الخطر المشترك الذي هو غير مرئي، لكنه في كل مكان؛ لا يطلب تأشيرة لعبور الحدود ولا يمكن اعتقاله.. يفرض على الجميع ضرورة التنسيق وليس المواجهة، فالكل في قارب واحد تعتمد نجاته على نجاح الجميع في الإبحار كفريق واحد. لذلك حتى لو بقي النظام الدولي القائم كما هو، ستبقى تجربة كورونا تذكرة وشاهداً على أن التهديدات ليست عسكرية فقط.

*أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الأميركية -القاهرة