«لم أكن أحسب أن المقهى صار جزءاً من نفسي إلا حين أجبرني الوباء على الابتعاد عنه. كنت أسميه «بقعة البهجة»، إذ أرى مقهاي من شرفة بيتي، وأتابع أحياناً انصراف زبائنه مع رحيل الليل حتى يهدأ قليلاً، فأهبط إليه، حاملاً كتابي أو حاسوبي، وأجلس أحتسي مشروبي وأنفخ في نرجيلتي. أقرأ أو أكتب، سيان، المهم أنني مشمول برحابة المكان ودفء الجالسين، منقطعاً ساعة أو يزيد من ليل عن عزلة، أو اجتناب، أو خلوة، أو ابتعاد صرت إليه منذ أن أحلت نفسي إلى التقاعد المبكر، وتفرغت للكتابة.
كان المقهى هو أكثر الأماكن التي تشعرني بأنني لست سجيناً مقهوراً على كل حال، لاسيما بعد أن ضاق الخناق عليَّ وغيري، فلا ندوات ولا استضافات متلفزة، ولا استطاعة لدى الإعلام الجديد أن يملأ بعض فراغ جيل اعتاد الصحبة والألفة، والقدرة على إيجاد الصفاء وسط ضجيج البشر وهمساتهم، التي تؤكد أن الحياة تمضي، وأن الغد يلاحق اليوم، ولا محالة آتٍ، وأن بوسع الإنسان أن يجد بدائل في حياة لا تكف عن ولادة احتمالات لا تنتهي.
أرقب الفراغ الذي يتمطأ أمام باب المقهى، بينما تنيخ عليه أشجار ترسل ظلالها إلى ساحته الأمامية التي كانت تتراص فيها الطاولات، بين ماء مرشوش بعيد العصر. كان شيء يلوح أمامي جليّاً، ثم يختفي تدريجياً مع زحف المساء ثقيلاً، واقتراب موعد انطلاق حظر التجول.
يضيع هذا الفراغ المرئي، وتنهمر الغربة المفعمة بوحشة وشجن، وتمسي الساعات دهراً، ويستيقظ في الروح ذلك المقهى الذي أكاد أمسكه بيدي، لكنه لم يعد موجودا، لم يعد مقهى، إنما طلل يقول إن بشراً كانوا هنا قبل أسابيع يملأون الليل بهجة، ويفسحون لي مسرباً للمرور من سجني الاختياري، إلى براح الحرية كل ليلة، فلا أنام مكسور الخاطر.
طالما اعتبرت جلسة المساء تلك مكافأة لي على ما بذلته من جهد مضنٍ في عملي منذ استيقاظي، وحتى لحظة الاستقرار في هذا الركن، الذي يطل على شارع بعده حديقة ضيقة، لكنني أرى الدنيا بأسرها في هذه المسافة القصيرة بين عيني وأغضان الشجر المغسولة بنور شحيح، ترسله مصابيح الشارع، بعد إطفاء مثيلتها الموزعة بعناية بين البساط الأخضر والشجر والنخيل العالي والورود.
اليوم، لا أجد مكافأة سوى الصبر والخيال. صبر على العزلة والخوف الذي يهجم فأصرعه، لكنه يلملم أشلاءه ويعود من جديد. أما الخيال فهو الفرج في هذه الشدة. أغمض عينيَّ وأنا أطل من شرفتي أو أجلس في صالة بيتي، وأستحضر مقهاي كما هو. لا أريد للمخيلة أن تمد فرشتها، التي تقبض عليها دوماً يد فنان قدير، أن تضع أي رتوش على الصورة الحقيقية المحفورة في رأسي. هي بكل ما فيها جميلة الآن، كاملة الأوصاف، ولا تحتاج إلى أي إضافة. أريدها كما كانت في اليوم الأخير، الذي تركتها فيه، وأنا أظن أنه فراق لساعات فقط، فإذا به يمتد أسابيع، قد تصبح شهوراً.
الآن أصبحت أكثر فهماً لمشاعر أولئك الذين كنت أراهم مستغرقين في لعب الطاولة أو الدومينو أو الشطرنج أو الورق، وكأنهم في رهان على ما تبقى لهم من حياة، وصرت أدرك ما يدور في رؤوس أولئك الذين يحدقون في الفراغ، مستأنسين بالضجيج، أو يرشفون على مهل مشروباتهم الساخنة، أو ينفثون دخان سجائرهم وأراجيلهم، ويقذفون أذاها في الهواء.
كلهم كانوا يستحضرون البهجة الغاربة، ويلوكونها على مهل، فتتسع دوائرها المسكونة بالأمل، وتطرد القنوط الذي يهجم على النفوس الراكدة بين الجدران المصمتة في البيوت، فلا يكون أمامها من سبيل في آخر الليل سوى الهبوط سريعاً إلى المقاهي الزاهية الساهرة تحتضن روادها المتعبين.
__ _ _ _ _. _ _
روائي ومفكر مصري