بريق الفوانيس يشوبه حزن خافت بسبب قلة أعداد الملتفين حوله، وظروف استثنائية تحاصر تلك البهجة التي نستقبل بها الشهر المبارك، الذي لطالما لهجت القلوب لاستقباله، وأسفت لتوديعه، وتأملت لبزوغ هلاله كرَّة بعد أخرى، متضرعةً للخالق بتجديد اللقاء، لا فاقدين ولا مفقودين. يجيء شهر رمضان المبارك هذه المرة مختلفاً تماماً؛ بملامح حادة تُفرض علينا لأول مرة، لكن تلك الملامح لم تغير من جوهره الحاث على التجديد والسمو والارتقاء بالذات، ولنكون أقرب للإيجابية وللعدالة مع أنفسنا، فلابد من موازنة واعية بين ظرفية المناسبة الدينية ولزوم الامتثال لإجراءات السلامة التي تعني تحقيق ضروريات الشرع الخمس، من حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ العقل وحفظ النسل وحفظ المال.
إن إدراك حقيقة ما يحمل شهر رمضان بين طياته من الخير والبركة، مَعين ذكي لاغتنام فرصه وتجاوز الشكليات الأخرى؛ فالصوم منارة مشعة بالإخلاص الذي يعيشه المسلم في كل دقيقة رمضانية، ابتغاء مرضاة الله عز وجل، مستشعراً الصلة التي لا يقف عائقاً دونها أحدٌ. يقول الحق تعالى في الحديث القدسي: «عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ. لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا؛ إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ».
وفي الوقت الراهن (زمن الكورونا) الذي لا نزال نواجه دقائقه الثقيلة، علينا ألا نجعلها تنقلب سلباً على شعائر رمضان التعبدية، ونسماته الروحانية، وفوائده الصحية المثبتة علمياً، فلا ينبغي لنا التلحف بالكآبة والنظر لشهر فضيل بنظرة شاحبة، وقد جاء يحمل بين طياته تغييراً وافراً يؤول بالبشرية لعصر فارق بعد زواله.
وحين تتحد مشاعر المسلمين، كافةً، نحو ما يحدث من نوازل تحيط بالشعائر الدينية والشعائر الاجتماعية، وتعيش الأسماع حالة فقد لأصوات المآذن في نقلها لصلاة التراويح، وتشتاق الروح لصورة الحرم المكي وهو مزدحم بالمصلين والزوار والمعتمرين، وتحن القلوب لاجتماع الأقارب الدافئ.. يبقى الشعور السامي النابع من خلجات قلب المسلم الصائم، واعياً بما تقتضيه الحالة من التزام، وعاقداً العزم على تجربة غنية بالفوائد رغم اختلافها. فرغم استثنائية الظروف الحالية، فإنها لا تعد عائقاً لإصلاح الذات بعد مراجعات، ولا مانعاً من استشعار الخشوع في العبادات، والإصرار على صلة الرحم عبر المهاتفة بالكلمة الطيبة والدعوات الصادقة.. بل تمثل فرصةً قيمة لتقديم المساعدات والصدقات للأسر المتعففة، وتوثيق العلاقة الاجتماعية الأسرية التي أضرها روتين الأيام المعتادة، والتي لا تترك متسعاً كافياً لتواصل أفراد العائلة الواحدة. فهذه فرصة ثمينة لإثراء الجوانب التربوية، وتعزيز السمات الأخلاقية والسمو بها، وتوجيه الأبناء للقراءة والتثقف وترسيخ القيم، بدلاً من الانشغالات «البالية» والمقتصرة على العادات السلبية من متنزهات ومأكولات سريعة، دون كلل. وفي الوقت الذي لا تثق فيه بطبق خارجي، تَعَلّم أن تصنعه مع عائلتك بمحبة وابتسامة.
ولا يزال يتجدد عطاء المولى بحلول الشهر الفضيل، راجين منه، جل وعلا، أن يجعل قدوم شهر رمضان، علينا وعلى البشرية جمعاء، فاتحة رحمات كثيرة، وأن يرفع عنا الوباء والبلاء، ويحفظنا جميعاً بعينه التي لا تنام، ويشملنا بعفوه وكرمه ومنه، وأن يعيننا على أداء حق هذا الشهر الفضيل الذي يمدنا بقيم الصبر، والإخلاص، والإيثار، والسماحة، وحب الخير للغير، ورقي المسلمين ووحدة اجتماعهم في الوقت ذاته. وكما قالها الشاعر جبران سحاري:
الصوم فاز بالاختصاص لربنا/// إذ قال: (لي) بشرى لكل الصُّوَّمِ
الصوم مدرسة الحياة لناظرٍ/// بصفاء ذهنٍ طالبٍ للمغنمِ
الصوم شرب للظمأ وتمسكٌ /// بالجوع حيث الصبر نكهة مطعمِ
الصوم حبس النفس في سجن العلا/// أهلاً بشهر الصوم أعظم موسمِ


*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة