أظهر برنامج تلفزيوني أثر الجائحة، وخلو الشوارع من البشر، والمركبات، والقطارات وحتى عربات النقل، حيوانات تجوب الأزقّة، والأسواق، وتمارس حرية الحركة من دون خطوط حمراء تحد من تجوالها في الأماكن التي كانت محرمة لمثل هذه الكائنات، ومن تأمَّل ذلك المشهد المهيب، شعر أنه أمام فيلم خيالي، يصور الحياة على الأرض وهي خالية من البشر، أو ربما يكون يستعيد الذاكرة إلى أزمنة غابرة، أي قبل خروج الإنسان على أرض البسيطة.
بدت الخليقة ساكنة، إلا من خشخشة أضراس هذه الحيوانات وهي تقرض الحشائش، وتمضغ الأعشاب المترامية في الجغرافيا. شيء أشبه بالحلم، وينزع إلى تحويل العقل إلى وعاء يختزن مظهراً جديداً من مظاهر الحياة والتي قد تحدث، ولا ريب في ذلك، لأن النشوء والارتقاء أمر طبيعي، وأن قانون نفي النفي وارد في قاموس طبيعتنا، المليئة بالمشاهد المدهشة، والمفزعة في نفس الوقت.
تابعت ذلك المنظر الرهيب، بقلب خضته لمعة العيون البريئة والتي نامت على أسرة الآلام المبرحة، وكنت لا زلت في فيض من هذه المشاهد، حين عرضت شاشة أحد التليفزيونات، صور تلك الحيوانات وهي تسرح، وتمرح، في فضاءات أصبحت خالية من البشر، وتخيلت كيف سيصبح العالم من دون كائنات تمشي منتصبة، رافعة الرأس متحدية الطبيعة، ومتجاوزة حدود المنطق الغريزي، وبكل أنفة تكافح من أجل إثبات الوجود، مقتنعة بأن الجنس البشري هو الأقوى، وهو الأنقى، وهو الأذكى، وهو الأكثر جدارة بالبقاء من سائر الكائنات.
فكرت ملياً، وتمنعت، ونظرت وتابعت ما يحدث في رأسي من ضمور إزاء هذا التعملق، لكائنات حسبتها، كما حسبتها الحضارة الإنسانية من قبلي، أنها الكائنات الأصغر عقلاً أو ربما أنها بلا عقل، ولكنها اليوم، وهي ترفل بسعادة متناهية، ولا تلتفت إلى الوراء، ولا يعنيها بشيء إن كان هناك خطر يهدد العالم، أطلق عليه جزافاً اسم كورونا، هي هكذا نشأت مع الطبيعة، وتناغمت معها، وانسجمت ضمن دورتها الكونية، من دون قلق، أو أرق أو نزق، إنها هكذا، تمضغ العشب، وتهز ذيلاً، ثم ترقص بفرح للحياة، وغير محملة بفكرة أو مشاعر تكدر حياتها، أو خوف من مجهول.
كل ما يجعلها أحسن حالاً منا، أنها بلا خيال، ولا أنا، تراكِمُ الغبارَ على قلبها، وتجعلها أكذوبة تاريخية، وخرافة عصابية.
تمنيت لو أن البشر أجمعين، يمتلكون هذه الفطرة، ولو أنهم تخلصوا من نفايات الأنا.