تساءل الفيلسوف الإيطالي «جورجيو اغامبن» في مقالة هامة بصحيفة «لا ربليكا» (19 أبريل الجاري): «كيف انهارت دولة بكاملها أخلاقياً وسياسياً أمام مرض معين، دون أن تعي الأمر؟». ويتحدث هنا اغامبن بطبيعة الحال عن بلاده إيطاليا وعن وباء فيروس كورونا المستجد الذي ضربها بقوة، ويذهب إلى أن الحاجز بين الإنسانية والهمجية تم تجاوزه في أسابيع ذروة انتشار الوباء، منبهاً بالخصوص إلى ظاهرة حرق جثث الموتى دون توديع أو دفن، وكبح علاقات الحب والصداقة بين الناس، بحيث أصبح الجار القريب عدواً تُخشى عداوته القاتلة، بالإضافة إلى تقويض الوحدة الروحية الجسدية للإنسان باختزاله إلى جسم أصم يتوجب الحفاظ عليه. ويخلص اغامبن من تحليله إلى أن نظام التباعد الاجتماعي في طريقه إلى أن يتحول من إجراء صحي احترازي إلى نمط من من التنظيم الاجتماعي العام، معتبِراً أن الكنيسة تخلت عن رسالتها الإنسانية في احتضان ضحايا الأوبئة المنبوذين وأصبحت في خدمة الديانة العلمية الجديدة، كما أن القانونيين انصاعوا لإجراءات الطوارئ وتعليق الحريات وتخلوا عن مبدأ الفصل بين السلطات الذي هو أساس الديمقراطيات الحديثة.
ما يهمنا في كلام اغامبن هو ما ألمح إليه من تحكم الأطباء في النظام الاجتماعي العام، إلى حد أنهم أصبحوا بالفعل حكام العالم اليوم، ينصاع لقراراتهم قادةُ الدول والاقتصاديون والقانونيون، باعتبار أن السياسات العمومية كلُّها غدت محصورةً في القضاء على هذا الوباء القاتل الذي يهدد البشرية حالياً.
وكان الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو قد تساءل في أعماله الأخيرة: هل يسير العالم في اتجاه القولبة الصحية الشاملة، أي انتصار سلطة الطبيب التي بدأت تدريجياً تعوض سلطة القسيس؟ وإذا كان سؤال فوكو قد اندرج وقتها (بداية الثمانينيات) في أفق إشكاليته حول نمط السلطة الحيوية في المجتمعات الحديثة، أي نمط الحكم القائم على تدبير وعي ورغبات السكان، فإن ملاحظات تلميذه اغامبن تطرح أسئلة جديدة حول العلاقات الراهنة بين الممارسة الطبية في عصر الأوبئة الفيروسية المعولمة وأنماط الحكامة السياسية والاقتصادية التي هي في طور المراجعة وإعادة النظر.
وإذا كان المفهوم السائد للطب اليوم هو أنه ممارسة تقنية علمية محضة، فإن الوباء الجديد في كثافته وقوة انتشاره ومصاعب استكشافه ومعالجته قد أرجع للطب مضمونه الإنساني العميق في علاقته بأبعاد الوجود الإنساني المأساوية التي أُريد لنظام العيادة الحديثة أن يُخفيه.
كان هانز جورج غادامير يقول، إن المرض وحده هو الحدث، أما الصحة فهي خرساء خفية خارج دائرة التفكير والعلم، ومن هنا مفارقة الطب الذي ينطلق من مبدأ مسكوت عنه هو فرضية العادي والسوي التي لابد منها لتشخيص المرض ووصفه، في حين أن هذه الفرضية هي خارج نطاق الطب نفسه، بل تحيلنا إلى المعجم الأخلاقي والفلسفي.
لقد كان الطب قبل العصور الحديثة شديد الارتباط بالفلسفة، ويكفي أن ندرك تزامن الخطابين في العصر اليوناني مع ابقراط وجالينوس، كما تتعين الإشارة إلى تداخلهما في السياق الإسلامي ويكفي هنا ذكر أبي بكر الرازي وابن سينا وابن طفيل.. إذ يتجلى هذا الارتباط في هدفهما المشترك الذي هو حسن ضبط أهواء النفس في قواها الداخلية وعلاقتها بمحيطها الخارجي بإعلاء قيم الاعتدال والتوازن والرفع الأخلاقي من الفضائل الإنسانية.
والمعروف أن أفلاطون استعار مقولة «الملكة» النفسية (arete) من القاموس الطبي، وكذلك نظريته في المثل (eidos)، كما أن أخلاق أرسطو قائمة على مفهوم «التوسط» (phronesis) الذي هو مفهوم طبي في الأصل.
وفي أبحاثه الهامة حول تاريخ الطب، يبين لنا الفيلسوف الطبيب جورج كانجلهم أن الممارسة الطبية انتقلت تدريجياً في العصور الحديثة إلى ضرب من التجريبية الوضعية التي أفقدتها أبعادها الإنسانية سواء تعلق الأمر بغائيتها التي لم تعد التناغم بين قوى النفس والانسجام مع المحيط الخارجي، وإنما معالجة خلل جسمي متموقع محلياً، أو بوسائلها العملية التي انتقلت من العلاقة العضوية بين الطبيب والمريض إلى الفحص المادي لجسم صامت ينظر إليه كمادة طبيعية لا تختلف عن باقي الأجسام الفيزيائية. ومن هنا المفارقة التي يعبّر عنها كانجلهم بحصر اهتمام الطب بالمرض وإهمال المريض، أي الخروج عن مفهوم الطب من حيث هو علاقة بكائن حي وبمحيطه البشري والاجتماعي.
ما كشف عنه الوباء الحالي هو ظاهرة مزدوجة تبين من جهة عجز المركّب الطبي الهائل في التعامل مع الفيروس القاتل، ومن هنا الرهان على سياسات الحجر والعزل لتعويض العلاج المفقود، وتبين من جهة أخرى الحاجة الحيوية إلى الخبير الصحي لإنقاذ العالم مع الاستعداد للتضحية بكل مكاسب الحريات الشخصية والرفاهية الاجتماعية.
وهكذا يرجع الوباء الحالي الطب إلى أبعاده الإنسانية الأصلية ويخرجه من الأقبية الاستشفائية إلى الرهانات البشرية الرحبة.

*أكاديمي موريتاني