تشمل العلوم العقلية العلوم الرياضية مثل الحساب والجبر والفلك والهندسة والموسيقى، ويدخل فيها ابن خلدون علم المنطق الذي هو في الأصل من علوم الحكمة، ويبطل صناعة أحكام النجوم، وهو علم التنجيم بوصفه الصورة الخرافية لعلم الفلك، مبيناً ضعف مداركه وفساد غايته. وهو ما قام به الفارابي من قبل. كما تشمل العلوم العقلية كل العلوم الطبيعية مثل الطب والصيدلة والحيوان والنبات والمعادن والكيمياء. ويدخل ابن خلدون النبات في علم الفلاحة. أما علوم السحر والطلسمات فربطوها بعلوم الكيمياء. والعجيب إبطال ثمرة علم الكيمياء وإثبات استحالة وجوده لما ينشأ عنه من المفاسد رغم وجود الكيميائيين القدماء مثل جابر بن حيان. ويدخل الفلسفة مع أنها من العلوم العقلية النقلية ويبطلها ويبين فساد منتحليها استئنافاً لموقف الغزالي في «تهافت الفلاسفة»، وموقف الفقهاء منها حتى اليوم.
والسؤال الآن: كيف يمكن إخراج هذه العلوم العقلية القديمة من إطار «تاريخ العلوم عند العرب» ومعاهد ومراكز تاريخ العلوم في الغرب والدراسات والجمعيات الاستشراقية، وإرجاعها إلى مصدرها الأول ومعرفة أسباب انقطاعها في ثقافتنا المعاصرة على عكس ازدهار العلوم النقلية؟ وإلى أي حد يمكن تطويرها من جديد، كما طوّر القدماء علوم اليونان بدلا من استبدال العلوم الغربية الحديثة بها؟
أما علوم اللسان العربي فتشمل علم النحو وعلم اللغة، وعلم البيان، وعلم الأدب. واللغة ملكة صناعية، فطرية ومكتسبة في آن واحد. واللغة العربية اليوم مستقلة عن لغة مضر وحِمير نظراً لتطور اللغة خاصة في الأمصار وفي الحضر الذي يفرض لغته بفعل الحداثة. وتعليم اللسان المضري مختلف عن صناعة العربية وليس شرطا لتعلمها. والذوق العربي في البيان لا يحصل للمستعربين من العجم وهو ما يناقض براعة العجم في تعلم العربية مثل سيبويه واضع علم النحو. فالعروبة ليست بأب وأم إنما العروبة هي اللسان، وكل من تعلم العربية فهو عربي. كما يتعلمها أهل الأمصار مثلهم مثل أهل البوادي وليسوا قاصرين عنهم في تعلمها. فلم تعد البادية بذلك النقاء الأول ولا الأمصار عادت كما كانت.
أما الآداب فهي فنون القول التي تنشأ من اللغة، إذ ينقسم الكلام إلى نظم ونثر بالرغم من وجود نوع ثالث هو النثر المنظوم والمنظوم المنثور. ويمكن الإجادة في اللغتين معاً حتى إذا كان الإبداع في أحدهما. والشعر والنثر صناعة يتعلمها الشعراء والكتاب. وهما صناعتان في الألفاظ دون المعاني نظراً لاستقلال المعاني عن الألفاظ طبقاً لقسمة القدماء ونفي المحدثين. فاللفظ يوحي بمعناه، والمعنى يفرض لفظه. وتحصل الملكة فيهما بجودة الحفظ والتقليد، وهو ما ينفي الفطرة والطبيعة لصالح الاكتساب. ولكل عصر ومصر شعره وإبداعه الأدبي. وقد أبدعت الأندلس في الموشحات والأزجال. والسؤال الآن: كيف يمكن الربط بين الشعر القديم والشعر الحديث، بين النظم القديم والنظم الحديث؟ وكيف أمكن إبداع فنون قولية أخرى كالقصة والرواية والمسرحية؟ وكيف تم الانتقال من فنون القول وهي الفنون السمعية إلى فنون البصر وهي الفنون التشكيلية؟
وفي النهاية، كانت سلسلة المقالات الأخيرة محاولة لقراءة ابن خلدون قراءة معاصرة من أجل تقدير مدى الصلاحية التفسيرية لنظريته على القرون السبعة التالية له كما كانت استخلاصاً من تجربة القرون السبعة السابقة له، بنفس المنهج وبنفس الروح؛ أي الملاحظة والتجربة والمعايشة وليس اعتماداً على الروايات وأخطاء المؤرخين. وهذه أعظم تحية لابن خلدون في مئويته السادسة، ليس باستدعاء ذكرى الأموات بل ببعث روحهم عند الأحياء.

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة