خلال حملته الانتخابية للانتخابات الرئاسية في 2016، وعد دونالد ترامب بحل النزاع العربي- الإسرائيلي بوساطة «صفقة القرن». وحين تولى الرئاسة، عيّن صهره جارد كوشنر من أجل تحقيق ذلك. فعمل كوشنر على مدى ثلاث سنوات لإعداد خطة كشف عنها الرئيس ترامب النقاب في 28 يناير 2020. والواقع أنه منذ الحرب العالمية الثانية، كانت سياسة الولايات المتحدة تجاه النزاع العربي- الإسرائيلي ثابتة عبر أحد عشر رئيساً أميركياً، من هاري ترومان إلى باراك أوباما. ولكن خطة ترامب المعلن عنها حديثاً قلبت الطاولة على تلك السياسة الطويلة.
فعلى مدى 72 عاماً، منذ تأسيس إسرائيل، وفّر كل الرؤساء الأميركيين الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري لإسرائيل بشكل مستمر. وعلى مدى أكثر من خمسة عقود، منذ الحرب العربية-الإسرائيلية في يونيو 1967 التي احتلت فيها إسرائيل القدس، إضافة إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، دعمت الولايات المتحدة أيضاً الحقوق الفلسطينية عبر دعم قرار الأمم المتحدة رقم 242. هذا القرار الذي وافقت عليه الولايات المتحدة وإسرائيل والدول العربية ومعظم دول الأمم المتحدة، ينص على «عدم جواز الاستيلاء على الأراضي من خلال الحرب»، ويدعو إلى «انسحاب القوات المسلحة الإسرائيلية من الأراضي المحتلة في النزاع الأخير». هذه الصيغة عدّلت لاحقاً خلال المفاوضات لتسمح بـ«عمليات تبادل صغيرة ومتفق عليها من الطرفين للأراضي».
السياسة الأميركية الثابتة طيلة هذه العقود الخمسة كانت تدعو الإسرائيليين والعرب إلى تسوية نزاعاتهم عن طريق المفاوضات المباشرة، مع عرض الولايات المتحدة وساطتها بين الجانبين. واتفق الدبلوماسيون على كل الأطراف على أربع قضايا لـ«الوضع النهائي» هي: رسم الحدود، ووضع القدس، والأمن، وعودة اللاجئين الفلسطينيين. وكان «حل الدولتين»، دولة إسرائيلية ودولة فلسطينية، بعاصمتين في القدس، نقطة التركيز الرئيسة.
ومنذ 1967، ساعدت الدبلوماسية الأميركية الطرفين بنجاح على الوصول إلى أربع اتفاقيات سلام. ففي 1974 توسط وزير الخارجية هنري كيسنجر في الاتفاقية الإسرائيلية- السورية لفك الاشتباك في الجولان. وفي 1978-1979 توسط الرئيس كارتر في اتفاقية السلام بين إسرائيل ومصر. وفي 1994، وقعت إسرائيل والأردن اتفاقية سلام رعاها الرئيس كلينتون. لم تحل أي من هذه الاتفاقيات الجانب الفلسطيني- الإسرائيلي من النزاع، ولكن تحت اتفاقية أوسلو اتفق الطرفان على خلق سلطة فلسطينية داخل حدود 1967 في انتظار قيام دولة، في مقابل اعتراف فلسطيني بإسرائيل.
ولكن المشكلة الإسرائيلية- الفلسطينية ظلت من دون حل. وعندما وسّعت إسرائيل المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، أكدت الحكومة الأميركية أنها غير قانونية تحت معاهدة جنيف الرابعة لعام 1949، وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 242، وينبغي إزالتها. وهو ما أيده معظم أعضاء الأمم المتحدة.

في 28 يناير الماضي، أعلن الرئيس ترامب الذي كان يقف إلى جانبه نتنياهو، خطة «السلام والازدهار»، خطته لإسرائيل وفلسطين. الخطة مخادعة، فهي تقول إن فلسطين يمكن أن «تصبح دولة مستقلة ورائعة حقاً»، ولكن قراءة متأنية للخطة التي تقع في 181 صفحة توضح أن فلسطين لن تصبح دولة ذات سيادة البتة. فأولاً، تقول الخطة: «ستقوم إسرائيل… بضم الأغلبية الساحقة من المستوطنات الإسرائيلية إلى التراب الإسرائيلي المتصل جغرافياً.. وستصبح الجيوب الإسرائيلية الواقعة داخل التراب الفلسطيني المتصل جغرافياً جزءاً من دولة إسرائيل وستربط بها من خلال نظام نقل فعال». و«ستكون للسكان الفلسطينيين… طرق وصول تربطهم بدولة فلسطين… و… سيكونون خاضعين للمسؤولية الأمنية الإسرائيلية». وتقول أيضاً: «وسيكون غور الأردن… تحت السيادة الإسرائيلية». وهذا يعني أنه لن تبقى للفلسطينيين سوى جزر صغيرة متناثرة، تحيط بها على كل الجهات الأراضي الإسرائيلية، ما يشكّل انتهاكاً واضحاً لاتفاقيات جنيف وقرار مجلس الأمن الدولي 242 لعام 1967، والتي أيدها كل الرؤساء الأميركيين السابقين.
ثانياً، ستبقي إسرائيل على «مسؤولية أمنية عليا عن دولة فلسطين»، بما في ذلك «الجيوب وطرق الوصول»، كما ستحافظ على «أمن المجال الجوي غرب غور الأردن والسيطرة عليه»، وستبقي على محطة استشعار مبكر واحدة على الأقل في فلسطين، وتراقب كل الأشخاص والسلع الذين يعبرون إلى فلسطين. وفضلاً عن ذلك، ستظل دولة فلسطين (بما في ذلك غزة) «منطقة منزوعة السلاح بشكل كامل».
ثالثاً، تدعو خطة ترامب أيضاً إلى «عملية نزع كاملة للسلاح في غزة». وتقول: «يجب على الفلسطينيين فرض وقف لإطلاق النار مع إسرائيل»، و«يجب أن تصبح حماس وحركة الجهاد الإسلامي وميليشيات وتنظيمات أخرى منزوعة السلاح»، و«يجب على حماس أن تعترف بإسرائيل وتلتزم بنبذ العنف وبالتجرد من السلاح». وتقول أيضاً: «يجب على السلطة الفلسطينية أن تتولى سيطرة كاملة على غزة».
رابعاً، في القدس ستصبح «الحدود الأمنية» الإسرائيلية- العربية المؤقتة لعام 1967 دائمة، ما يضع كل القدس الكبرى تحت السيادة الإسرائيلية. وستصبح العاصمة الفلسطينية خارج الحدود التقليدية للمدينة، في بلدة أبو ديس الفقيرة. وبهذا، رفض ترامب السياسة الأميركية القائمة منذ عقود والمتمثلة في تقاسم الإسرائيليين والفلسطينيين للمدينة.
خطة ترامب قدمت عدداً من «المبررات»، إذ تقول إن «السيادة مفهوم عديم الشكل تطور مع مرور الزمن» وإن «الانسحاب من أراضٍ تم الاستيلاء عليها في حرب دفاعية شيء نادر في التاريخ». وكلاهما ادعاءان لا أساس لهما. كما تقول إن حماس «تنظيم إرهابي سيطر على أراضي» غزة من دون الإشارة إلى انتخاباتها الشرعية في 2005 والتي أيدتها الولايات المتحدة. كل هذه المبررات تعكس ادعاءات المتطرفين اليمينيين الإسرائيليين.
بيد أن خطة ترامب، فاجأت كل الأميركيين الذين يفهمون النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، وشعروا بأنها تقلب بشكل كامل نصف قرن من المفاوضات والسياسات الدقيقة والحذرة. ولهذا، كان الدبلوماسيون الأميركيون مستائين.
المذهل أكثر هو أن الرئيس ترامب أساء تماماً تقدير رد الفعل على الخطة. فحين الإعلان عنها قال: «إن العديد من البلدان سترغب في المشاركة في هذه الخطة»، ولكن إسرائيل وحدها دعمتها.
الرئيس الفلسطيني محمود عباس رفض الخطة رفضاً باتاً، إذ قال: «نقولها ألف مرة: لا، لا، لا لصفقة القرن». كما رفضها وزراء الخارجية العرب الممثلون لـ22 بلداً، ومنظمة المؤتمر الإسلامي (57 بلداً مسلماً)، وأمين عام الأمم المتحدة الذي قال إنها «تنتهك قرارات الأمم المتحدة»، والمبعوث الأممي إلى الشرق الأوسط نيكولاي ميدفيديف الذي قال إنها «تقوّض السلام الإقليمي»، وكل حلفاء أميركا الأوروبيين. وفضلاً عن ذلك، فإن كل المرشحين «الديمقراطيين» للانتخابات الرئاسية الأميركية رفضوها، وسيعمدون إلى إلغائها في حال لم يُعد انتخاب ترامب. فماذا حدث؟ جارد كوشنر طوّر الخطة على مدى ثلاث سنوات، ولكنه لم يكشف عن تفاصيلها للفلسطينيين أو لأي حكومات عربية، وفق مصادر مطلعة، وإنما كشف عنها لإسرائيل فقط. ولكن كوشنر فشل في القيام بتخطيط متأنٍ. فقد افترض أن الحكومات العربية ستتخلى عن الفلسطينيين، ولكنها لم تفعل. بل إن الأردن ومصر اللتين لديهما اتفاقا سلام مع إسرائيل لم تفعلا. هذا بينما كانت حكومات عربية أخرى مهذبة تفادياً لإهانة ترامب، ولكنها أيدت السياسات القديمة التي تستند إلى قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 وحل الدولتين.
ماذا سيحدث؟ الواقع أن لا أحد يستطيع التنبؤ بمصير الخطة. فهل سيقدم نتنياهو على ضم المستوطنات وغور الأردن بشكل أحادي مثلما وعد في 28 يناير؟ خبراء إسرائيليون يقولون إنه من غير المرجح أن يفعل ذلك حتى وإن بقي رئيساً للوزراء لأنه يكره المخاطرة وغالباً ما ينكث وعوده. هل سيكون ثمة عنف؟ عباس وعد باحتجاجات غير عنيفة، ولكنّ ضماً إسرائيلياً يمكن أن يؤدي إلى انتفاضة أخرى. بعض الدول العربية أوصت بمفاوضات، وعباس قال إنه قد يوافق على ذلك ولكنه «لن يقبل بأن تكون أميركا (الوسيط) الوحيد». وخلاصة القول إن ترامب أثار عاصفة ولكنه ترك الخطوات المقبلة في حالة غموض وعدم يقين.
*دبلوماسي أميركي سابق متخصص في شؤون الشرق الأوسط