أفيق أبطأ من الفجر، أحضّر القهوة على نار خفيفة، أرتشفها جرعات على مهل، أتمشى بين المطبخ وغرفة الجلوس، فالشرفة.. وهكذا دواليك، ببطء من نَسِيَ أن يقود خطاه، أو يحسب وقته.
أدلف إلى الشارع كأنه، للوهلة الأولى، نَسِيَ ناسه وراءه، أو اغتربوا عنه طويلاً، أمشي كمن يمشي على رؤوس صمته، على رؤوس كل حاسة من حواسه.. بذلك البطء المتواري (بلا وداع)، البطء الذي ثقلت حركاته في زمن كورونا، تماهى البطء بالأجسام، وازداد في الشوارع البطيئة كأنما البطء يُماري ويواطئ المبطء.
المحال التجارية المغلقة، بعضها بالواجهات الزجاجية، والأخرى بالبوابات الحديد والأقفال الكبيرة، الأشجار وحدها تهتز أحياناً، أو تتردد ساكنة في ركود كئيب، ساكنة في عزلاتها، الواجهات ما زالت مكتظة بمعروضاتها وبضائعها، ظاهرة من دون ظهور، ماثلةً من دون مثول، نادرون المارة، كأنما مجهولو الإقامة، والقسمات، والهوية، مكممون، اختفت أنوفهم وشفاههم، فقط تلمع عيونهم، آذانهم، ملابسهم، شعورهم..
كل شيء موجود وغير موجود في شوارع بيروت، كل شيء موجود وغير موجود في زمن كورونا، شوارع الأشياء المعطوبة، المسكونة بالهواجس والغربة.
لم يعد في زمن كورونا مَن يستعجل الأرصفة أو يسابق أو يتجاوز، إنه زمن البطء المستعاد، البطء الناضج بعزلاته الكثيرة، الغريب على أجسامه.. الخارج على أنماط السرعة، سرعة الحداثة الآتية من ثورة القرون الوسطى، حضارة أسرع من صوتها أو صرختها، أسرع من أخبارها العاجلة، ومن أفكارها، حضارة التواصل الموهوم، حضارة الخضوع لآليات التكنولوجيا (التجريدية)، والاختراعات المتزاحمة، ومختبرات الروبوتات والطائرات.. وهي الأسرع من اللهاث والصواريخ البالستية عابرة القارات.
إنها الحضارة السائلة (كالمياه المفلتة على عواهنها)، كل شيء سائل على غير قرار، لزج، لا يسترجع، ولا يرتاح، هذه المجتمعات السائلة المتلاغية الجارية بلا أحكام، ولا أحوال ولا مسافات: كأنما عصر السرعة هو عصر الوصول بلا وصول، القفز إلى القفز، سبقنا أمنا الطبيعة، وكائناتها، خنّاها كشركاء لها في هذا العالم، دمرناها، أبدناها، أخللنا بتوازنات فصولها بسرعة أسطورية، أبدنا في حدود خمسين سنة كائناتها المائية، والرملية، والحيوانية، التي تعود أعمارها إلى ملايين السنين.
ثم.. وعلى دفعات ومراحل، كان التاريخ يتوقف فجأة، حتى أعطب نفسه اليوم مع كورونا، توقف كل شيء، تجمد كتماثيل من الملح فجأة، انهار كل ما في هذا الكون، بلا بوصلة، تعطلت الآلات التكنولوجية المتقنة، حتى الكمال: تحولت خردة، المنازل باتت ملاجئ، مصحات، مقابر، والمستشفيات معازل.. والغرف كهوفاً، كأنما عاد كل شيء إلى بدايته، إلى جهله الأول، إلى خوفه الأول.. أقفرت المدن كأنها صحارى. تحولت المخترعات خردة، المخططات حبراً بلا ورق.
ها هو الشارع الذي أعبره لا أحد يذكر خطاه فيه، ولا أنفاسه، ولا حتى ذاكرته، فقط خيالات قليلة متباطئة تقرع الأرصفة بإيقاعات جوفاء تمشي بلا دليل إلى مصائرها، مكممة الأصوات، ضئيلة.. أطلال تحاكي الأطلال.
عدت القهقرى إلى البيت، فتحت الباب ببطء، نظرت من خلال النافذة، ورأيت بضع يمامات تحط هنا وهناك، وتجنح، وتطير، وتفقدت البحر، إنه في مكانه هادئ، أزرق، صافٍ، نزعتُ الكمامة ثم رحتُ أبحث عن كتاب أقرأه.. ببطء، أتلمس حروفه ببطء.. لكي أنعي بكل جوارحي حضارة الأشياء والسرعة والجنون.

*كاتب لبناني