رأينا الأسبوع الماضي، أن القوة في النظام القديم كانت موزعة بنمط يشبه لعبة شطرنج ثلاثية الأبعاد، فعلى رقعتها العليا نجد القوة العسكرية الأحادية القطب إلى حد كبير، وقد احتفظت أميركا بتفوقها في ذلك، أما على رقعة الشطرنج الوسطى، فظلت القوة الاقتصادية متعددة الأقطاب طوال أكثر من عقد، واللاعبون الرئيسيون هم: الولايات المتحدة وأوروبا واليابان والصين، إلى جانب آخرين لهم أهمية متزايدة. وأما رقعة الشطرنج السفلى، فهي مجال العلاقات العابرة للحدود، وتشمل فاعلين ليسوا دولاً، كمحولي الأموال إلكترونياً، والإرهابيين الذين يتاجرون بالأسلحة، والقراصنة الذين يهددون الأمن الإلكتروني، والأوبئة وتغير المناخ.
البيئة الدولية الجديدة ستصبح أكثر ضبابية وتعقيداً وغموضاً من أي وقت مضى، وكان منظّر العلاقات الدولية وصاحب الكتابات المعتمدة، الفرنسي برتران بادي، قد ‬طوّر ‬نظرية ‬اختزلها ‬في ‬كلمتين: «‬وهن ‬القوة»‭ ،‬واعتماداً ‬على ‬نظريات ‬إيميل ‬دركاييم ‬وهيغو ‬كروتيوس، ‬أكد ‬أن ‬القوة ‬بمفهومها ‬التقليدي ‬الكلاسيكي ‬فقدت ‬الكثير ‬من ‬معناها ‬مع ‬ازدياد ‬الفاعلين ‬في ‬البيئة ‬الدولية ‬المعقدة. ‬لذلك أعتقد شخصياً، أن ‬القوة ‬بالمفهوم ‬القديم ‬لن ‬يصبح ‬لها ‬أي ‬معنى؛ ‬إذ ‬تكفي ‬حروب ‬على ‬شكل ‬هجمات ‬إلكترونية، ‬أو ‬نشر ‬أسلحة ‬فيروسية ‬مجهولة ‬المصدر، ‬للقضاء ‬على ‬الأخضر ‬واليابس.. ‬فلن ‬تعود ‬بعض ‬الدول ‬القوية، ‬كالولايات ‬المتحدة، ‬تتوفر ‬على ‬الردع ‬الاقتصادي ‬والعسكري ‬والحمائي، ‬بل ‬وحتى ‬الثقافي، ‬كما ‬كانت ‬في ‬السابق، ‬ولن ‬يعود ‬للثنائية ‬القطبية، ‬أو ‬الأحادية ‬القطبية، ‬نفس ‬المدلول ‬مع ‬صعود ‬اقتصاديات ‬الدول ‬الآسيوية ‬واقتصاديات ‬أخرى، ‬واتساع ‬رقعة ‬الأزمة ‬المالية ‬العالمية ‬والتنافس ‬التجاري ‬العالمي، ‬وتنامي ‬الإجرام ‬الإلكتروني ‬وعولمة ‬الخدمات، ‬وتنامي ‬دور ‬الأفراد ‬في ‬العلاقات ‬الدولية ‬المقبلة.
وفي هذه البيئة الدولية المعقدة، ستظهر الصين وبعدها روسيا على شكل قوتين تثقان في نفسيهما، ولربما استعملتا أسلحة ذكية لم تعهدها العلاقات الدولية من قبل. ونتذكر كيف يمكن لتدخلات إلكترونية التأثير بدرجة كبيرة في مسار العمليات السياسية في أقوى الدول الديمقراطية، فالاستراتيجيون الروس وعوا، منذ سنوات، مفهوم البيئة الاستراتيجية المشار إليه في منشورات كلية الحرب الأميركية، على أنها «نظام عالمي حافل بتهديدات كثيرة ومثيرة للشكوك، والصراع متأصل فيه وغير قابل للتنبؤ. وفي هذا العالم تكون قدراتنا على الدفاع عن مصالحنا الوطنية وتعزيزها مقيدة بقيود مرتبطة بحجم الموارد المادية والبشرية. وباختصار، هذه البيئة تتسم بالتقلب، والتوجس، والتعقيد، والغموض». ودور الاستراتيجي، هنا، هو ممارسة النفوذ للسيطرة على التقلب، وإدارة الهواجس، وتبسيط التعقيدات، وكشف الغموض. فالمرحلة المقبلة سينجح فيها، وسيتموقع على رأس لعبة الشطرنج ثلاثية الأبعاد فيها، من يجيد اللعب ومن يتوفر على نظارات استراتيجية وتخطيطية دقيقتين جداً، وينظر إلى الواقع والمستقبل بحرفية وذكاء، ويضع سياسات عمومية جديدة.. فمحترفو، أو صانعو السياسات العمومية، يجب أن يكونوا مدرَّبين على ضرورة التيقن في التخطيط من خلال المعطيات الدقيقة، خلافاً لمجال الاستراتيجية المبنية على بُعد نظر في بيئة معقدة يطبعها الشك وعدم اليقين. وعلى المخطط أن يكون علمياً في مقارباته، ومفاهيمه، وتطبيقاته، بينما على الاستراتيجي أن يكون أكثر عمومية. ومع ذلك، فإن التأثيرات الاستراتيجية الناجمة عن دعم مثل هذا التصور، قد تفشل، وقد يكون لها مفعول عكسي. وعلى المفكر الاستراتيجي أن يكون صاحب قدرة كبيرة على تطبيق النظرية الاستراتيجية في العالم الواقعي، وأن يجمع بين مجالي الفن والعلم، وضرورة خلق توليفة تجمع حسابات التقلب، والتوجس، والتعقيد، والغموض، التي تطبع البيئة الدولية الحالية، أو لنقل البيئة الاستراتيجية المقبلة.

*أكاديمي مغربي