حتى لو كان قرار أميركا وقف الدعم المالي عن منظمة الصحة العالمية صائباً (= 450 مليون دولار أميركي سنوياً)، فإن توقيته جاء في غاية السوء. وحتى لو كانت منظمة الصحة العالمية بالمقابل، قد شاب أداءها تقصير أو ارتباك مما تستحق عليه اللوم، ومطالبتها بمزيد من العمل الجاد والشفاف، خصوصاً في وقت الجوائح، فقد كان بمقدورها العمل على احتواء زوبعة الهواجس الأميركية وتجنب سهامها، والمحافظة على أدائها مستمراً بشكل أفضل، ولا بأس من شرح موقفها للدول الأعضاء في المنظمة، إذا ما سنحت الفرصة لذلك. إن الوضع المتوتر بين الطرفين - الولايات المتحدة والمنظمة - لا يمكنه أن يستمر والعالم في مواجهة فعليّة مع الجائحة؛ فلا الولايات المتحدة يمكن للعالم الاستغناء عن جهودها حضارياً وبأكثر من معنى ومستوى، ولا منظمة الصحة العالمية يمكن إضعافها في هذا الوقت بالذات، وتقييد عملها المهم والضروري للبشرية. هنالك جهات دولية عديدة ترى أنه أولاً، ما كان على أميركا، وهي التي تتربع على قيادة العالم الحر حتى اليوم، أن تثير (معركة تأزيم) مع إحدى منظمات هيئة الأمم المتحدة في هذا الوقت، لأن ذلك سيؤثر على عمل بقية المنظمات الأخرى العاملة في الميدان، بل سيؤثر وإنْ بطريقة غير مباشرة، على الأمم المتحدة ذاتها، التي قال أمينها العام أنطونيو جوتيريش في سياق متصل: «إن هذا ليس وقت خفض موارد منظّمة أممية منخرطة في الحرب ضدّ وباء كورونا». وثانياً، ما كان يُتخيّل أن دولة عظمى، كالولايات المتحدة، ستسيّس معركتها مع منظمة الصحة العالمية، واعتبار (تقصيرها) سبباً وجيهاً لحرمانها من دعم مالي هو الأسخى ( يشكل 15% من الميزانية) وتجعله الجائحة يكتسب أهمية أكبر في مواجهة لجهة التوقيت. العالم، اليوم، لا تهمه المواجهة الاقتصادية، أو التجارية، أو التقنية الذكية، بين الولايات المتحدة والصين، أو روسيا أو أوروبا، سواء كانت هذه المعركة فوق الأرض، أو في الفضاء، أو أن تكون معركة جوف- أرضية. إنما أولوية العالم اليوم، هي أن يكون متحداً بدوله وشعوبه في وجه عدو واحد، يتمثل في جائحة كورونا، والخروج منها بالحد الأدنى من الخسائر البشرية في الراهن، والمستقبل الذي لن يكون خالياً مما يشبهها، ومن ثم العمل على نظام صحي أفضل، ونظام تعليم أفضل، وبيئة طبيعية أنظف، ونظام ضمان غذائي موحد يضمن للبشرية القوت الضروري وقت الأزمات والكوارث. والمطلوب، أيضاً، إعادة تقوية الإنسان نفسياً وروحياً، ليظل متوازناً ومنتجاً ومتعاوناً. أما بعد انقشاع غبار الجائحة ومعها الهلع الذي خلّف ندوباً في الأنفس، فيمكن لأي طرف أن يسحب أجندته من الأدراج، ويبدأ جمع قواه، ويستعد من جديد لحروبه البائسة مع طواحين الهواء، هذا إذا كانت ثمة حروب ضرورية بعد الذي حدث، تهم البشرية وتستحق أن تخاض، فلحد الآن لم تنس البشرية نتائج حروب الأمس القريب كيف كانت نتائجها؟ وماذا جنت منها؟
*إعلامي وكاتب صحفي