وأنت مُسمّرٌ أحياناً أمام شاشات التلفزيون، تُشاهد تلك المآسي غير المسبوقة التي أصابت العالم بتفشي كورونا الثاني، ومئات ألوف المصابين، وعشرات ألوف المتوفين، وإعلان طوارئ كونية لمواجهة هذا الوباء، أمام كل هذه الملاحم القاسية تُشاهد أيضاً، وليس على هامش هذه البلية الفيروسية، سجالات الأمس بين بعض السياسيين ومفكرين وحزبيين ومثقفين، في أدغال أوروبا وعندنا. يستغلون كل ذلك بإثارة صراعات وتوجيه اتهامات وإدامة معاركهم السابقة حول العولمة والاقتصاد والديمقراطية والسيادة. يحولونها إلى معارك حاضرة، راهنة، محورها العولمة التي ما زالت موضوعة في دائرة الاتهام: ربطُها ربطاً سببياً بظهور الوباء الكوروني، بل بمؤامرة انتشاره! السؤال المُلح: هل يجب ربط كورونا بالعولمة كعلاقة تفاعلية وكإفرازٍ لها؟ يعني: هل العولمة هي التي أنتجت الوباء بسياستها الاقتصادية وخططها ووسائلها؟
لسنا في مجال الدفاع عن العولمة، وإنجازاتها الرهيبة، في المستويات الاقتصادية والجرائم البيئية التي ارتكبتها بحق الطبيعة والكائنات الحية هي من حواضرها وقَسَماتها. لكن هذا شيء، وتصوُّرُها مسؤولةً عن الفيروس شيءٌ آخر، والذين يوجّهون هذه الاتهامات، سبقَ أن اتّهموا المسلمين والمهاجرين والأفارقة والغرباء بأنهم «فيروسات» و«حشرات» يجب استئصالهم من الغرب.
وإذا عدنا إلى بعض تواريخ ومواقيت وجغرافيات مثل هذه الأوبئة، نجد أن التُّهم الملصقة بها غير دقيقة وغير واقعية. فكل مؤرّخ ومُطّلع، يعرف أنه لم تكُن هناك عولمة عندما تفشى الطاعون في جنوى ومرسيليا وفتك بربع الشعب الأوروبي. كما لم تكن هناك عولمة في القرنين السادس عشر والسابع عشر عندما انتشر وباء الدفتيريا «الخانوق»، وكذلك لم تكن هناك علامات عولمة واضحة كما نعرفها اليوم عند ظهور أول وباء مخبري في عام 214 قبل المسيح. في بيرينثيا في تراسا. في تلك اللحظة، استُنبطت عبارة (Epidemos) باللغة اليونانية، أي الوباء. يقول الطبيب المشهور أبو قراط راوياً ما شاهده: «يبدأ المرض بسعلةٍ جافة، ثم بارتفاع درجة الحرارة، ثم يأتي الاختناق». ويقول أيضاً: «إن هذا الوباء، قتل تقريباً كل المدينة». والغريب اللافت، أن لا شيء تغير جذرياً في معالجة مثل هذه الظواهر السارية بعد 2500 سنة، سواء طريقة المجتمعات في مواجهتها، أو في مراحل تطوراتها السلبية. فالطبيب أبو قراط (الذي تُرجمت كتاباته إلى العربية وتأثر بها عددٌ من الأطباء في عصرهم) يُعدد لائحة في إطار سعلة بيزانتيا، تجمع مواصفات المرض، والتي لا تختلف كثيراً عما نشهده اليوم.
أما بوكاسا، فقد شرح بدوره، أن الطريقة الوحيدة لمحاربة الفيروس والحد من انتشاره، هي العزل، كما هو الحال اليوم، بل والامتناع عن زيارة الأقارب للمرضى، أو الاحتكاك بهم.
وإذا عُدنا إلى أوبئة الطاعون الكُبرى، فقد عُرف أثناءها أيضاً العزل، كما يقول الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو. فمسارات معالجة الفيروسات متشابهة بين اليوم والعصور القديمة. فوارق أساسية تتلخص في أن الطب اليوم ليس كما كان مع أبو قراط وابن سينا. وقد سجل تطوراً كبيراً على كل الأصعدة، ونظن أو نتمنى أن يكون هناك حظوظ رغم كل التشاؤم، لإيجاد دواء فعال، ناجح في المدى القريب.
إذن، أين العولمة، وأين الفيروسات والطاعون وكورونا؟ رغم كل هذه الحقائق التاريخية المؤكدة، فقد يستمر سجال السفسطائيين برُتَب ومستوياتٍ تكهنية وتنبئية أخرى. ماذا بعد كورونا؟ يبدو أن المعركة بدأت في بعض الصحف الأوروبية، وحتى العربية، باكراً جداً.

*كاتب لبناني