في أكبر إغلاق مؤقت في العالم، لا توجد رحلات طيران، ولا قطارات مسافرين، ولا سيارات أجرة، وعدد قليل من الصناعات فقط يعمل، لكن ثمة شيء واحد وفير بشكل ملحوظ: هواء أكثر نقاءً.
وتنخرط الهند في محاولة شاقة لخفض منحنى الإصابات بكورونا، قبل أن تؤدي لانهيار النظام الصحي المنهك في هذه الدولة، التي تضم أكثر من 1.3 مليار نسمة، وفي ذات الوقت، فإن الإغلاق الذي دام ثلاثة أسابيع يخفض التلوث الهوائي المرتفع في الهند، لقد فاجأت سرعة التغيير، حتى الخبراء الذين يقولون: إنها دليل على أنه يمكن تحقيق تحسينات كبيرة في جودة الهواء، وإن كان ذلك بتكلفة بشرية واقتصادية هائلة.
بعد أيام من بدء الإغلاق في 25 مارس، انخفض مستوى التلوث الجزيئي، الذي يعتبر الأكثر ضرراً بصحة الإنسان بنسبة 60% في نيودلهي، وفقاً لتحليل أجراه خبراء في مركز العلوم والبيئة غير الربحي، كما حدثت انخفاضات مماثلة في مدن هندية رئيسية أخرى.
وفي الأوقات العادية، تعد دلهي أكثر المدن تلوثاً في العالم، وخلال معظم الشتاء تظل قراءات جودة الهواء عند مستويات تعتبر في الولايات المتحدة غير صحية أو حتى أسوأ من ذلك، وفي نوفمبر الماضي، شهدت المدينة أطول موجة من الهواء الخطير منذ بدء مثل هذه المستويات القياسية.
وفي هذه الأيام، يظل سكان دلهي عالقين في منازلهم، إلا عند شراء السلع الأساسية، لكن السماء فوقهم زرقاء، والقمر منير، والنجوم يمكن رؤيتها من دون الحاجز الضبابي المعتاد، يقول «سامير داهندا»، مهندس معماري (26 عاماً): إن المشهد مدهش للغاية، لدرجة أنني «أشعر وكأنني أمدح السماء لجمالها».
وفي مناطق أخرى من الهند، يمكن رؤية سلاسل جبال الهمالايا من على بعد لأول مرة منذ سنوات، كما تتدفق الممرات المائية التي يخنقها التلوث، مثل نهر يامونا في دلهي دون عوائق.
لقد جاء التراجع الحالي في التلوث بثمن باهظ، حيث تعطل جزء كبير من الاقتصاد الهندي، مما أجبر العمال الضعفاء على السفر لمئات الأميال، سيراً على الأقدام للوصول إلى مساكنهم، وقد يغرق الملايين في براثن الفقر أو الجوع، إذا استمر الإغلاق بعد فترة الثلاث أسابيع الأولى.
ويقول الخبراء: إنه لا تزال هناك دروس يمكن استخلاصها لتخيل مستقبل مختلف، إن انخفاض التلوث «دليل على المفهوم» الذي يوضح أن الهواء النقي «ممكن»، كما قال «أجاي ماثور»، المفاوض الهندي السابق لشؤون المناخ، وعضو مجلس رئيس الوزراء ناريندرا مودي، المعني بالتغير المناخي. وأضاف: «العلاقة بين السلوك الشخصي والهواء الذي أتنفسه باتت أوضح بكثير الآن مما كانت عليه من قبل»، وقال إن أول خطوة لأي حكومة هي التأكد من أن «العدد الهائل من الهنود لديهم سبل عيش مستدامة»، ومع ذلك، فهو يأمل أن تحظى بعض التغييرات الأساسية، مثل التخلص التدريجي من الوقود الصناعي، وتسريع التحول إلى المركبات الصديقة للبيئة، بدَفعة في عالم ما بعد الوباء.
وغالباً ما يعاني ماثور من سعال مستمر، قال له الأطباء إنه مرتبط بهواء دلهي الملوث، وقال: إن مثل هذه الأعراض اختفت في الأسبوعين الماضيين، ومن المفارقات العجيبة للأزمة الحالية أن الوباء الذي يجعل من الصعب على البعض التنفس، قد خفف من مشاكل الجهاز التنفسي للآخرين عن طريق الحد من التلوث، ويقول اختصاصيو أمراض الرئة في دلهي: إن العديد من مرضاهم المنتظمين يتنفسون بشكل أسهل حالياً، ويقللون من استخدامهم لأجهزة الاستنشاق، وقال «أرفيند كومار»، جراح الصدر وأمين صندوق مؤسسة العناية بالرئة: إن هذه الفترة بالنسبة لهم بمثابة نعمة.
ربما تكون معركة الهند الطويلة مع التلوث، قد جعلتها عرضة بشكل خاص لفيروس كورونا المستجد، ومؤخراً، وجد الباحثون في جامعة هارفارد أن الأماكن التي تعرضت على مدى فترة طويلة لمستويات أعلى من تلوث الجسيمات الدقيقة (المعروفة باسم PM2.5)، كانت مرتبطة بمعدلات أعلى من الوفاة بسبب كوفيد-19، حيث من الممكن أن تتراكم هذه الجزيئات في أعماق الرئتين، إلى جانب أنها ارتبطت بارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب والتهابات الجهاز التنفسي وحتى السرطان، وإلى الآن، توفي نحو 200 شخص في الهند بسبب الإصابة بكوفيد-19، بينما بلغ عدد الإصابات المؤكدة بالفيروس أكثر من 6.500 شخص.
ومن جانبها، وصفت «أنوميتا روي شودري»، خبيرة تلوث الهواء في مركز دلهي للعلوم والهندسة، تحسن جودة الهواء في الهند بأنه «تجربة كبيرة غير مقصودة تتكشف أمامنا»، وقالت إن الإقامة الجبرية تُظهر «الحجم المطلوب للتغيير»، وتظهر للناس «ما الذي يعنيه أن تتنفس هواءً نقياً».
وفي جميع أنحاء الهند، تختلف نوعية الهواء من السيء إلى المروع، من فترة إلى أخرى خلال العام، مع فترة راحة قصيرة خلال الرياح الموسمية السنوية، وتبدأ أسوأ فترة عندما تنخفض درجات الحرارة في أكتوبر، حيث يزيد مستوى المزيج من الانبعاثات الصناعية وغبار الطرق وعوادم السيارات والرماد الناجم عن جذامات المحاصيل، ثم يبدأ التلوث في التراجع في فبراير.

*مديرة مكتب صحيفة «واشنطن بوست» في الهند
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»