قبل عام كانت الخرطوم تعيش نشوة الخلاص من حكم البشير البائس، والذي أطاحت به ثورة شعبية عارمة تُوِّجت باعتصام حاشد أمام مقر القيادة العامة للجيش، بعد أن قدم الشعب أنموذجاً رائعاً في التظاهر من أجل تحقيق أهدافه في التغيير الشامل، وتصفية نظام الاستبداد، وبناء دولة المواطنة والعدالة، رافعاً شعارين مهمين تمثلا في (تسقط بس) و(حرية - سلام - عدالة). ورغم أجواء كورونا التي خيمت على الذكرى، إلا أن ذلك لا يمنع من استحضار عظمة اللحظة التي سجلها التاريخ للسودان الحديث بعد أن كسر الثائرون الأحرار جدار الصمت ورفعوا أصواتهم ضد نظام عاث فساداً في البلاد.
عام 2018 أبهرت مشاهد اعتصامات الشباب السوداني العالم، وهم الذين قدموا مثالاً في التحضّر، وكلنا يذكر الفتاة التي أنشدت للثورة والثائرين بصوت عالٍ وهتفت للحرية والعدالة والسلام، فأُطلق عليها لقب «الكنداكة»، وهو اسم ملكة في حضارة كوش الأفريقية القديمة ببلاد السودان.
في الثورة أثبت الشباب وعيهم وعلو ثقافتهم، وهم الذين صيّروا الميدان عنواناً لثبات الشعب كله، ورمزاً للاصطفاف الوطني، ومهرجاناً للفنون ومفردات الجمال. ولا شك أن اختيار موقع الاعتصام كشف عن ذكاء قادة الحراك الجماهيري، حيث تحصن الشعب بجيشه الذي وقف مع مطالبه المشروعة وحماه من رصاص الغدر الذي أطلقه عناصر ميليشيا حزب الكيزان - جماعات الإسلام السياسي كما أسماهم شباب الثورة السودانية.
واجه الشباب إرهاب الكيزان وعزموا على تقديم أرواحهم من أجل استعادة الحرية والكرامة المسلوبتين، فكانت الثورة تعبيراً عن واقع شعب نفد صبره وأصبح أكثر إصراراً على إسقاط طغمة غاشمة تدثرت بعباءة الدين وهو منها براء.
التقت الجموع الثائرة أمام القيادة العامة للجيش ليشهدوا لحظة سقوط النظام رسمياً يوم 11 أبريل في لحظة فارقة كشفت للعالم نهضة جيل جديد ملهمٍ ثار لينفض عن بلاده المنهكة غبار أسوأ 30 عاماً مرت في تاريخ السودان. فقد أشعل نظام البشير نار الفتنة والعنصرية، وساعد في تقسيم الوطن، وعمل على تربية كيانات مصلحية، لكن ثورة أبريل جاءت لتكون بمثابة زلزال قوي استمر قرابة خمسة شهور، حيث هبّ المناصرون للثورة ضد الديكتاتور، من عطبرة وبورتسودان إلى كل مناطق السودان، فكان الشارع بكل مكوناته حاضراً ليسطر ملحمة وطنية رائعة جسد فيها أسمى معاني الولاء والوفاء للأرض، مؤكداً على حقه بوجود نظام وطني عادل.
وفي المقابل كشف حراك الشعب عن وعيه بحقيقة الجماعات والتنظيمات التي تتخفى بعباءة الدين، وبفطرة سليمة وبنقاء سريرة فضح مكر تلك الجماعات، وأن شعاراتها عن الحرية والعدالة كانت مجرد أكاذيب وادعاءات لدغدغة مشاعر البسطاء وخداعهم على مدار ثلاثة عقود استطاعت خلالها تنصيب نفسها كمتحدثة باسم الدين، ومفسرة لتعاليمه، فسيطرت على الشارع وكادت أن تدمر كل ما هو جميل وعظيم في السودان وعند شعبه.
في العام الأول للثورة الحذر واجب، لأن الطريق إلى تحقيق الديمقراطية ما تزال طويلة، ولا شك أن صعوبات داخلية وخارجية ستواجه السودان الذي تحاول حكومته الانتقالية برئاسة د. عبدالله حمدوك بجدية تصحيح المسار، والعمل من أجل رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب، وتطهير المؤسسات الوطنية من مخلفات النظام البائد وجماعاته التي تحاول تكدير السلم الأهلي عبر إثارة الفوضى والقلاقل. وبالتأكيد مع وقوف الشعب إلى جانب حكومته وبالحفاظ على خط الثورة السلمية سينتقل هذا البلد إلى مرحلة أكثر نضجاً وإشراقاً حيث لن يكون للكيزان وأمثالهم مكان فيه.