أتاحت فترة العزل الإجبارية للكثيرين في هذه الأيام العصيبة فرصة العودة إلى أشياء مهمة كانوا يؤجلونها، فكادت تسقط من حساباتهم لكثرة انشغالاتهم، لكنهم ما إنْ اختلوا بأنفسهم حتى بدأوا بمراجعة ما أجّلوه وما فاتهم أيضاً، وأنا واحد من بين هؤلاء. فذهبت إلى القراءة في محاولة للابتعاد عن أخبار مؤسفة تغرق النفس في كآبة مضللة. ولأني شاعر فقد كنت مشدوداً نحو ركن مكتبتي الخاص بروائع الأدب العالمي، وفي تأثير واضح للأحداث على عقلي الباطن أردت البحث عن رائعة غابرييل غارثيا ماركيز (الحب في زمن الكوليرا) بيد أن عيني وقعت على رواية (الطاعون) لألبير كامو، والمدهش أن التفاصيل الواقعية كانت هي القاسم المشترك بين الروايتين، حيث سرد المؤلفان بحرفية عالية تفاصيل دقيقة لأحداث هزت العالم، ولا شك أن ما نعيشه اليوم سنقرأه لاحقاً في عمل روائي أو نراه كفيلم يتناول سيرة بشر من لحم ودم، عاشوا في زمن كورونا وربما ماتوا بسبب هذا المرض. فالوباء ورغم ما فيه من مآسٍ إنسانية، إلا أنه سيكون مصدر إلهام لعلماء وكتّاب وتشكيليين ونحاتين، وقد نرى فيلماً على غرار (تيتانيك)، لكن أحداثه تقع في سفينة (دايموند برنسيس) التي كانت تحمل على متنها 3700 راكب، حوالي 700 منهم كانوا يحملون فيروس كورونا، بعضهم مات طبعاً، وظلت السفينة عالقة في ميناء يوكوهاما الياباني تخضع لإجراءات العزل مدة 14 يوماً لا شك أنها كانت الأسوأ حينها على الركاب الذين كانوا ممنوعين من التحدث مع أي كان عن أوضاعهم.
وأخيراً اهتديت إلى ضالتي (الحب في زمن الكوليرا)، الرواية التي سبق لي وقرأتها قبل أعوام، لكني أردت العودة إليها لأعيش أجواءها ثانية، وهي التي تتناول قصة عاشقين مراهقين اتفقا على الزواج لكن الظروف تجعلهما يفترقان. فالفتاة تتزوج، والشاب يتيه في الحياة، إلا أنه أبداً لم ينس فتاته، ولم يفقد الأمل بأنه سيلتقيها ثانية. خمسة عقود تمر ليعلم بنبأ وفاة زوج حبيبته، فيتقرّب منها ثانية، ويحيي ما كان بينهما، لينتصر الحب على العمر وعلى سنوات الفراق. وعلى متن سفينة يعيشان أفضل أوقاتهما كعاشقين وحيدين بعد أن يدّعي للركاب بأن السفينة موبوءة بالكوليرا، فغادروها خوفاً من أن يصابوا بالمرض القاتل، ليبقى وحبيبته على متنها، يعبران النهر جيئة وذهاباً، ولا ترسو بهما إلا لملء الوقود، وعلم أصفر يرفرف على ساريتها.
ثم عدت لقراءة رائعة ألبير كامو (الطاعون)، والتي أعتبرها واحدة من أفضل الروايات التي قرأتها في حياتي، خاصة وأنها تصور ما كان قد حدث في وهران أيام الاستعمار الفرنسي للجزائر، حيث تُخضع مدينة بأكملها للعزل التام عن العالم بعد انتشار وباء الطاعون فيها، وخشية انتقال العدوى إلى مناطق أخرى.
أنتهي من قراءة (الطاعون)، وأنتقل إلى قراءة (الحجرة)، المسرحية التي أبدعها الكاتب البريطاني «هارولد بنتر»، والتي تدور أحداثها في حجرة ضيقة فيها تحتمي شخصيات العمل. والحجرة هي تعبير مجازي عن الملجأ المؤقت الذي يمكن أن يحمي الإنسان لفترة محددة، لكنه لن يحميه إلى الأبد من مصيره الحتمي أو من الخطر أياً يكن. و«بنتر» في مسرحيته هذا وسواها يرى أن الإنسان يعيش محاصراً بسبب ما يحدث من كوارث، والنتيجة النهائية ستكون بفنائه بسبب الأزمة الأخلاقية التي يعيشها العالم.
وبما أننا في زمن (خلك بالبيت) أجد أنه علينا استثمار الوقت جيداً بما نحب، سواء بالقراءة أو الكتابة، أو بإنجاز أعمال كنا قد أجّلناها، ونمنح عقولنا فسحة مناسبة للتفكّر والتأمل في ما سبق وفي ما سيأتي، ومن الضروري لنا أن نحصّن أرواحنا بالطاقة الإيجابية لعيش مستقبل أفضل، وبالمحبة التي تجمعنا على الخير.. الخير فقط.