في مواجهة الوباء اشتعلت حملات التوعية بالخطر والسلامة، إذ بدا واضحاً أن الفرد هو حجر الزاوية في نجاح عمليات الوقاية، لكن كان محيراً للمشتغلين بالعمل العام عجز كثير من الناس عن إدراك الخطر على أنفسهم وأسرهم، وفشلهم في حماية أنفسهم بسبب فقدانهم للحذر والوعي الأساسي بالحياة، والحال أنها عمليات كان يغلب عليها كما يقال في التراث «مثل العليق عند الغارة»، ويقصد بذلك أن الفرسان الذين كانوا يغفلون تدريب وإطعام خيلهم لن يفيدهم في شيء حين يطعمونها ليلة المعركة! فالخيول التي هزلت بسبب الإهمال لن تكتسب قوتها في لحظات. وهذا ما حصل بالضبط وما يجب أن تدركه الأمم وخاصة العرب فالفرد الذي صار هو الضامن للعقد الاجتماعي والأخلاقي، لم يكن معترفاً به كياناً مستقلاً ومتفرداً، ولكنه كان جزءاً من مجاميع اجتماعية أو اقتصادية أو عمرية أو مناطقية أو طبقية أو عشائرية وعائلية أو مؤسسية أو نقابية، لم يكن سوى عضو في جماعة اجتماعية أو طبقية، ولم يكن يستمد وجوده إلا بالانتماء إليها والمشاركة فيها وبحمايتها ورعايتها، ولم تفطن برامج التعليم والتنشئة والعمل والتعبئة، كما الهويات والعلاقات الاجتماعية والانتماءات إلى الفرد بما هو عالم بذاته، ويعرف فرداً متميزاً، وأما الانتماءات المتعددة والمختلفة فهي إضافات إلى الفرد، وهي يجب أن تكون قابلة للتغير والزوال، وليس ثابتاً منها إلا الفرد! واليوم حين كنا في حاجة إلى الفرد الفاعل والمسؤول والقادر وحده مستقلاً بذاته أن يحمي ويضمن برامج وسياسات الحماية والمواجهة، وجدناه تغلب عليه الهشاشة وضعف الخبرة والوعي والتدريب الكافي والتنشئة على مهارات الحياة ومعارفها والاعتماد على الذات.
لكن الأهم من ذلك كله أن يكون الفرد قادراً على اكتساب «المعنى» من ذاته وليس من خارجها، ففي هذه الفاعلية الذاتية يكون الفرد قادراً على تحمل المسؤولية، وقادراً أيضاً على الاكتفاء بذاته، فقد بدا واضحاً أن معظم أسباب الخرق لسياسات الحماية مردها إلى عجز الفرد أن يسلك في أسلوب حياة له قيمة ومعنى من غير الحاجة إلى الآخرين.
والحال أن أزمة الفرد هي نفسها التي كانت سبباً في نجاح جماعات التطرف والكراهية المنتسبة إلى الدين والأيدولوجيات المتطرفة في اختراق الجماعات واجتذاب المؤيدين والأنصار، لكن ولسوء الحظ لم يكن ممكناً إقناع مخططي السياسات الاجتماعية بأهمية الفرد في مواجهة الكراهية والعنف! وأما في مواجهة الوباء فإنه يتشكل اليوم إجماع على أهمية الفرد ودوره في المواجهة.
وكما نتساءل ببداهة وشعور بالصدمة عن إحجام الفرد في كثير من الأحيان عن حماية نفسه، بل وسلوكه سلوكاً خطيراً على صحته وذويه ومن حوله، فإن السؤال نفسه قائم عن سبب مخاطرة الفرد بحياته لأجل المشاركة في جماعات خارجة على الدين والقوانين والمجتمعات؟ إنه ببساطة «المعنى»، الذي يعتقد المؤيدون للجماعات أنهم يحصلون عليه، وإنه لمن المحير كيف تجتذب هذه الجماعات الباحثين عن المعنى برغم أنها لا تقدم المعنى!، لكنها الحيرة نفسها أيضاً التي تجتذب الشباب إلى جماعات وشلل تعمل وتفكر ضد نفسها، بل وتجعلهم يخاطرون بالخروج على القانون وإيذاء أنفسهم.
والحال أن قضية الانسياق في كل أشكالها وتطبيقاتها تعكس الخواء والفراغ الاجتماعي والثقافي الذي يغلب على الأفراد «المنساقين» وعجز المؤسسات الاجتماعية والتعليمية للدول والمجتمعات عن استيعاب الشباب في عمليات مشاركة وعمل حقيقي لأجل مجتمعاتهم وقضاياهم، كما تعكس غياب الفنون والثقافة والإبداع والفرص المؤسسية للتطوع والإبداع والتعبير عن الذات والهوايات، وأظن ذلك هو الدرس رقم 1 للناجين من الوباء!
*كاتب وباحث أردني