كوفيدـ 19، أو «العقدة المتأزمة»، التي تمر بها دول العالم، عاكسة صورة موجعة نالت المتابعة عن كثب لموعد الخلاص منها، لكنها قد تكون غداً نقطة تحول «عالمية»، بفضل هذه التجربة التي لم تستثني أياً من قاراتها.
كافة الأحداث والمستجدات التي تصارعها البشرية اليوم- برغم الألم - ما هي إلا ساحة غنية بالخبرات والتجارب واكتشاف الثغرات، التي ستنقل بدورها قيادات العالم ومؤسساته لإحداث تطورات كبيرة في كافة القطاعات الاقتصادية، والطبية، والتعليمية، وإضافة ثورات رقمية في ميادين العمل، لم تحظَ باهتمام كافٍ من قبل.
ولا شك أن جانب البحث العلمي، والتطوير في القطاعات الطبية، سيكون أول ما يُصب الاهتمام عليه، وحتى يكون ذلك صالحاً بامتياز، سواء في هذا القطاع أو غيره، فلابد من تسليط الضوء على فئة الطلبة الأكاديميين حصراً، بغية صناعة مشروع قائد في كل منهم، مملتكاً لرؤية وهدف واضحين يعمل من خلالها على بناء مستقبل البحث العلمي في المنطقة العربية، وكيفية استثمار ذلك في التصدي لأعقد التحديات، وردم الفجوات المماطلة من ازدهار البلاد. فجيل الشباب الذين يمثلون ما نسبته 32% من سكان العالم العربي، هم الحلقة المركزية القادرة والشغوفة للتناغم مع خليط المعرفة النظرية واستشراف المستقبل من خلال التقنيات الحديثة.
العالم العربي يضم ثراءً منقطع النظير من الفئات العمرية «الفتية»، ووجود نماذج قصت أجنحتها قلة الموارد، وجفاف الاهتمام ورعاية بذورها، فمجال البحث العلمي وبخاصة في الدول العربية، يشكل تربة متعطشة للتروية، ليس باعتباره شرطاً في تقدم ونهضة المجتمعات وحسب، بل ارتقاءً في مكانة جامعاتها، وصمام أمان يساند كافة شرائح المجتمع ومؤسسات الدول وأجهزتها للنجاة مما قد يواجها من معضلات مفاجئة. فهل تستوي الدول التي صبت خرسانة إنجازاتها على أساس علمي متين، بالدول التي تكاد للتو تحاول الصعود على بحوث مستوردة، أو تكتفي بترقب من يلهمها حلول أزماتها؟
والسؤال الذي يطرحه القارئ الفطن (لماذا لم تتغلب الدول المتقدمة في بحوثها العلمية على الفيروس لحد الآن؟) لإننا جميعاً نتفق على أن هذا التحدي بالذات تفرّد بحاجته لكل فرد في المجتمع ليصبح سلاحاً بوعيه والتزامه للقضاء عليه، ومن جهة أخرى فهو لا يزال معوزاً لنبض لا تنخفض حدته في البحث عن سبب علمي يجد علاجاً ناجعاً له، والذي سيخرج من قلب المختبرات العلمية، ونتائج البحوث.
التفاؤل في البحث العلمي العربي لا يعد هدفاً بعيداً، فقد أذهلتنا الكثير من النماذج الشابة العربية بإنجازاتها في الوقت الذي كنا نترقب ما يَخترع أو يكتشف الآخرون، ولا أقول هنا بسلبية الإفادة من التجارب السابقة، ولكني ضد الاعتماد الكلي عليها فالتوكل لم يعن يوماً تواكل. وعلى سبيل المثال تقدم طفلة بعمر الزهور (فاطمة الكعبي) ما يزيد على عشرة اختراعات، وتتوج بلقب «أصغر مخترعة إماراتية»، وتنهل من بحور العلم، على مقاعد دراستها في جامعة فيرجينيا للتكنولوجيا في الولايات المتحدة الأميركية الآن، وحصلت على غيرها من الإنجازات والتكريمات، بفضل ما وجدت من حنو صادق واحترام لميولها العقلي، وإتاحة الفرص وتوفير الإمكانات سواءً على مستوى العائلة. أو الدولة.
المحاولة الناقدة الساعية للوصول لحلّ مشكلة إنسانية معينة، والتي تمثل إحدى التفسيرات المنسوبة للبحث العلمي، عمل بها في الفترة الحالية نماذج عربية غيورة على مصلحة بلدانها ورؤوفة في الإنسانية، منها ما قدمه البعض مساندةً للقطاعات الطبية التي تواجه إحدى أشرس الحروب الفيروسية من حيث سرعة انتشاره، لنرى صناعة بعقول مغربية لأجهزة تنفس وقياس درجات الحرارة، تلقى لاحقاً احتضان حكومي للفكرة، وصناعة أخرى في جامعة خليفة، وقطاع غزة في فلسطين ودول أخرى.
ما أحوج شبابنا اليوم لمضاعفة الثقة بقدراتهم، والاعتراف بإسهاماتهم، وتوجيههم للمدخل الصواب في تشكيل أفكارهم وميولهم. فإن إثارة قضية البحوث العلمية في المنطقة العربية، لا تعد تنظيراً ولا تكراراً، بل نداءً إيجابياً يبحث عن استجابة صادقة، في بقعة زاخرة بالكفاءات والأدمغة، وتعاني شحاً في استثمارها، إذ يُخصص إنفاق ملياري دولار سنوياً للبحث العلمي على أعلى تقدير بين الدول العربية، بينما يعتبر ذات المبلغ ما تخصصه الولايات المتحدة الأميركية لجامعة واحدة من جامعاتها فقط!
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة