هل العبرة التي يُحصّلها كل شخص على سطح الأرض مما يجري تعني بالضرورة أن الدول ستتعظ؟.. سأل نفسه بصوت مسموع، وأغرق في ضحكات متواصلة، فمنذ متى كانت قوانين الدنيا تتبدل، وتنقلب رأساً على عقب إنْ ضرب العالم وباء جائح أو اندلعت حرب كونية؟ هل يتحول الجحيم إلى نعيم؟ هل يولد عالم آخر بلا صراع على الموارد والمكانة والصيت الزائف؟.. سيل من الأسئلة يملأ رأسه الآن، وهو جالس يحدق في السقف الأبيض، الذي يتمنى أن يزول ليرى السماء الطليقة طيلة وقت حجر منزلي يختلط فيه الاختيار بالإجبار، وتتوزع الإجابات في الهالات المتلاحقة التي تتراقص بين النور والعتمة، بينما الليلة تمضي كابية في ظل ضوء واهن من لمبة صغيرة في الردهة الجانبية.
لم ير إجابة تخرج عن تلك التي قرأها في التاريخ، وقال لنفسه بصوت مسموع: ستتراجع أمم لتتقدم أخرى، لكن العالم سيبقى على حاله، غابة تمرح فيها ضوارٍ ناطقة. وأتاه في هذه اللحظة مقطع قصيدة لأمل دنقل: «لا تحلموا بعالم سعيد/ فخلف كل قيصر يموت/قيصر جديد»، وتذكر المصطلح الذي صكه المفكر المصري المرموق شاكر عبد الحميد «ما بعد الكورونيالية » Post-Coronialism مدركاً أن الرجل يتحدث عن الاتجاه الجديد في النقد والإبداع والدراسات الإنسانية، وليس نمطاً مغايراً في علاقات الدول.
كان يطالع في الأيام الأخيرة الكثير من كتابات على مواقع التواصل الاجتماعي يتوقع أصحابها أن الوباء اللامرئي سيجرف في طريقه أمماً مرئية، كل شيء فيها ظاهر، البشر والحجر والصيت والآمال المجنحة، وسيمد يده إلى أمم أخرى لتقطع التاريخ في غمضة عين، مختصرة فواجعه وتباريحه ومآسيه المعتقة، صاعدة إلى القمة.
إنها القمة التي لا يرى من يجلس عليها كل الذين يكابدون تحته، متطلعين إليه، وكلما مدوا أيديهم قطعها، أو فقأ عيونهم كي لا يرونه، وهو يلغ في دمائهم، ويخطف ما في أفواههم، ويسلب ما في أيديهم ويكدسه في جيبه.
ستتبدل وجوه البلاد، لكن ستبقى الخصال الثقيلة راسخة كالجبال، ولن يرعى الذئب مع الحمل. فهما في لحظة الخطر، حين يقفان معا على حافة هاوية قد ينظر كل منهما إلى الآخر في سلام، فالحمل يخاف من السقوط المروع المفضي إلى الموت أكثر من خوفه من الذئب، والذئب يرى أن النجاة من الوقوع الرهيب أهم كثيرًا من لحم خصمه التاريخي اللدود، لكنهما ما إن يعبرا معا مسافة الرعب الطارئ، حتى يعود الذئب ذئبًا، والحمل حملًا.
في كل مرة أرسلت البيئة جنودها محتجة على تلاعب البشر بها، أو سلَّ البشرُ أنفسهم كل السيوف والرماح والحراب والسهام، جاء من يقول: دنيا جديدة تولد. لكن ما إن وضعت حرب الطبيعة والبشر أوزارها، حتى عاد كل شيء إلى ما كان عليه، وإن غابت وجوه أو صغرت، وحضرت وجوه أو كبرت.
لم يجد من زملائه سوى واحد فقط يشاطره هذا الرأي، البقية كانوا منساقين إلى الدعاية الصاخبة التي تقول: ما بعد غير ما قبل. لم يغضبه قولهم، فهو يعلم أن أغلبهم يفكرون بالتمني، ويتفهم أنه ربما يقصد بعضهم التغيرات التي حتما ستأتي على إجراءات في الإدارة والتعليم والصحة والهجرة، لكنه حين ينظر إلى أقوالهم الأخرى وتصرفاتهم، يبتسم ويسأل نفسه: كيف ينتظر «هؤلاء الأوغاد مدينة فاضلة».
يتابع الجنائز الصامتة، وأرقام الذين يتساقطون كل ساعة في عداد المصابين، وأولئك الذين لا يعرفون أنهم يحملون بين جوانحهم الأذى، ثم يذهب إلى هؤلاء المحللين السياسيين الذين بدأوا يدفعون بأكتافهم الأطباء والمختصين في الأوبئة والتغذية حتى يستعيدوا المساحات المفتوحة بين أفواههم وآذان الناس، وتخلو لهم الشاشات. ينصت إليهم، وأغلبهم متعجلون يهللون للعالم الجديد الذي يشرق مرئيا من تحت إبط وباء لامرئي، ثم يبتسم، مستعيدا هذا التاريخ الطويل من المعاناة مع طغيان تتوالى غلبته، من أدنى الأرض إلى أقصاها.

*روائي ومفكر مصري