بعد السيطرة طبياً على جائحة كورونا، ستمتلئ الشوارع مجدداً وسنتحرر من التصاقنا اليومي لساعات طويلة بشاشات الكمبيوتر ومن العزل الاجتماعي والعيش الافتراضي.. لكن يجب أن نتخلص من وهم كبير، ألا وهو أننا سنعود ببساطة إلى عالم ما قبل كورونا. فعلى الأقل من الناحية الاقتصادية، ستكون هناك أزمات تتطلب وقتاً طويلاً لمواجهتها. فقد ارتفع عدد العاطلين عن العمل في الولايات المتحدة، الأسبوع الماضي، إلى عشرة ملايين عاطل، وهو عدد غير مسبوق منذ نهاية الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي، بل تقول التقديرات، إن هذا العدد قد يتضاعف ليصبح 32% من قوة العمل.
والسؤال الأهم هو: هل ستؤدي أزمة كورونا إلى عالم جديد دون عولمة؟
تبدو الشواهد الأولية مؤيدةً لهذا الرأي، على أساس أن مفهوم العولمة عند كثيرين هو تهميش سلطة الدولة القومية وإضعاف مفهوم السيادة الوطنية، وأن العولمة ليست فقط اختراق الدول، بل اختراق المجتمعات أيضاً. لكن على العكس من ذلك، تبين أزمة كورونا عودة سلطة الدولة بوصفها السلطة الوحيدة القادرة على اتخاذ القرارات المطلوبة، من إغلاق وفتح للحدود أو وقف للرحلات الجوية إلى قرارات خطر التجول والعزل الاجتماعي.
وتأييداً لهذه الشواهد الأولية حول سيطرة الدول، اختفت من الشوارع مظاهر الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية، من حملة القمصان الصفراء في فرنسا إلى الجموع الغفيرة في الجزائر والعراق ولبنان.. وبالتالي اختفت تحديات الشارع، مما جعل الحكومات هي المتحكم الأوحد في الفضاء العام.
وإلى ذلك، فإن منافسي الدولة القومية على المستوى الدولي (العديد من الفاعلين الدوليين) لم يُظهِروا أية فاعلية في مواجهة الجائحة، حتى أكبرها تأثيراً. فمثلاً يتبوأ نموذج الاتحاد الأوروبي مكانة متميزة بين هؤلاء الفاعلين الدوليين، لتبنيه إلغاء الحدود بين أعضائه، وإنشائه عملة موحدة، وهما أساسان هامان لممارسة السيادة الوطنية، وقد انتزعهما الاتحاد بنجاح ليصبح أقوى نموذج للفاعلين فوق الدول.. لكنه رغم كل ذلك أظهر قصوراً كبيراً حيال أزمة كورونا.
نستطيع تعداد الأمثلة والشواهد الواضحة على العودة القوية للدولة القومية، فهل معنى ذلك أن جائحة كورونا أنهت العولمة فعلا؟ هذا رأي متعجل، لأن الأزمة لم تنته بعد، كما أن الشواهد الأخرى تؤيد بقاء العولمة، وإن بصيغة أخرى.
أولاً: عادت الدولة الوطنية بالفعل، وقد استتبت لها السيطرة في غياب فاعلين آخرين (داخلياً وخارجياً)، لكن ليس لأنها كسبت المعركة ضد هؤلاء الفاعلين، وإنما بوساطة عامل خارجي مفاجئ جاء ليساعدها. ومع ذلك، وبعد السيطرة الطبية على هذه الجائحة، ستتم محاسبة كثير من الدول وتقييم مدى النجاح والإخفاق، أي أن العامل الأساسي الذي سيسيطر على عالم ما بعد كورونا هو فاعلية الدول، أي أسلوب الحوكمة نفسه، خاصة مع زيادة المشكلات الاقتصادية والصحية كمشكلات تتطلب تنسيقاً عالمياً.
ثانياً: إن فيروس كورونا في انتقاله من بلد إلى آخر لم يحتج جواز سفر أو تأشيرة لعبور حدود الدول، وبالتالي فإن السياسات الوطنية المنفردة لن تفلح في مواجهته، بل يتطلب تنسيقاً عالمياً شاملاً.
ستستعيد الدولة الوطنية بعض وظائفها التقليدية، لكن لن تنتهي العولمة بل ستستمر، وإنما على أساس تنسيق مستمر بينها وبين الدولة كفاعل أساسي في النظام العالمي، أي أن العلاقة بين الدولة والعولمة لن تكون علاقة صفرية، وإنما سيكون هنا تنسيق بين الخارج والداخل في نظام عالمي جديد تحتاجه الدول نفسها في مواجهة مشاكل لا تستطيع معالجتها بمفردها، وستكون التكنولوجيا في صف العولمة الجديدة.

*أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الأميركية -القاهرة