مضى زمنٌ كانت فيه برامج الرعاية الاجتماعية الواسعة أمراً معتاداً في غير قليل من الدول الرأسمالية في أوروبا، ومناطق أخرى في العالم. فقد أظهر الكساد الكبير عام 1929 أن أزمة الرأسمالية العالمية بلغت مرحلة متقدمة تجاوزت الأزمات الدورية، التي كانت مألوفة من قبل. ولذا، شرع عدد متزايد من الدول، التي خشيت استغلال الاتحاد السوفييتي والشيوعيين في العالم أزمة الرأسمالية لتحقيق مزيدٍ من التوسع، في مراجعة السياسات التي قامت على فكرة أن السوق الحرة تستطيع تصحيح أي اختلالات تحدث فيها تلقائياً، دون حاجة للتدخل في عملها، مما يحول دون حدوث أزمات كبيرة. وكان كتاب جون كينز المشهور «نظرية في العمل والفائدة والنقود»، وبرنامج «العهد الجديد» الذي تبناه الرئيس الأميركي الأسبق روزفلت عام 1936، نقطة انطلاق باتجاه سياسات أكثر اهتماماً بالعدالة الاجتماعية في دول رأسمالية عدة.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، صعدت الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا، وتبنت سياسات رعاية اجتماعية واسعة، كانت بمثابة «ضريبة» لحماية النظام الرأسمالي، وإنعاشه، وضخ دماء جديدة فيه، أدت إلى تفوقه في النهاية وانتصاره في نهاية الحرب الباردة.
لكن حكومات محافظة في أوروبا والولايات المتحدة، آمن بعضها بمبادئ الليبرالية الجديدة، اتجهت إلى تقليص برامج الرعاية الاجتماعية تدريجياً، اعتقاداً بأنها تُضعف فرص النهوض بالاقتصاد، وتبدد موارد كبيرة تصبح أكثر جدوى عندما تُستثمر من أجل رفع معدلات النمو، وبالتالي زيادة فرص العمل ورفع الأجور. وجوهر هذه المجادلة أن سياسات تنشيط الاقتصاد أكثر فائدة للضعفاء والفقراء في المجتمع، من سياسات الرعاية الاجتماعية.
واستمر هذا السعي إلى التقليص حتى ظهور فيروس كورونا المستجد، وإدراك أن تداعياته شديدة الخطر على الفئات الضعيفة والمتوسطة، فاتجهت حكومات الدول التي قلصت برامج الرعاية بدرجات متفاوتة، إلى التوسع فيها على نحو غير مسبوق، للمحافظة على تماسك المجتمع في مرحلة عصيبة.
ولنأخذ حالة فرنسا مثالاً في هذا المجال. فقد خاضت الحكومة الفرنسية الحالية معارك ضارية في الفترة السابقة مباشرة على ظهور كورونا، لإجراء تعديل في قانون التقاعد يحرم فئات اجتماعية عدة من مزايا يوفرها لها هذا القانون. وغامر الرئيس إيمانويل ماكرون بشعبيته من أجل إحداث تغيير يؤمن بجدواه، ويرفضه قطاع واسع من الشعب الفرنسي. غير أن الرئيس، الموصوف بـ«رئيس الأغنياء» لإصراره على تقليص الرعاية الاجتماعية، اضطر لتوسيع هذه الرعاية، وتوفير الموارد اللازمة لحصول العمال والموظفين على أجورهم أو نسبة كبيرة منها، في حالة عجز الشركات التي يعملون فيها عن سداد هذه الأجور، وتوفير ضمانات حكومية لقروض المشاريع الصغيرة، وتخصيص معاشات للمحتاجين، وضخ الأموال في المؤسسات الطبية.
وكل هذا كان يُعد خطاً أحمر لدى الحكومة الفرنسية، التي تتوقع إنفاق ما يزيد على 30 مليار يورو لإنقاذ الضعفاء، وهو ما كان يُعد نوعاً من الخيال قبل أن يجتاح كورونا العالم.
وقل مثل ذلك عن الإدارة الأميركية التي خصصت 2.2 تريليون دولار لمساعدات عشرات الملايين؛ عبر إعانات البطالة، ودعم النظام الصحي، وتقديم القروض الميسرة للشركات الصغيرة، وغيرها من أوجه الإنفاق التي لم تكن ممكنة قبل محنة «كورونا». وأكثر من ذلك، قرر الرئيس ترامب استخدام قانون الإنتاج الدفاعي، الذي يضع الشركات الخاصة تحت تصرف الإدارة الفيدرالية، لإلزام أي منها بإنجاز عمل تتطلبه المحنة الراهنة، حتى إذا لم يحقق لها الربح الذي تريده. وقد لجأ ترامب لتفعيل هذا القانون عندما ماطلت شركة جنرال موتورز في الاستجابة لطلب الإدارة إنتاج 40 ألف جهاز تنفس في آخر أبريل، وعرضت إنتاج ستة آلاف فقط، وبأسعار مبالغ فيها.
لكن، هل سيكون يسيراً على الحكومات التي توسعت في برامج الرعاية الاجتماعية العودة عنها؟ وماذا في حالة تعود المستفيدين منها عليها ومطالبتهم باستمرارها؟ وليس هذا إلا سؤالاً من بين أسئلة كثيرة تثيرها محنة «كورونا» بشأن المستقبل.

*مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية