قُضي الأمر، وانفصلت بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي. في ستينيات القرن الماضي، وقف رئيس الحكومة البريطانية هارولد ماكميلان متوسلاً أمام الرئيس الفرنسي شارل ديغول للحصول على موافقته على قبول طلب انضمام بريطانيا إلى «السوق المشتركة». وقد ذكر ذلك الجنرال ديغول في مذكراته بشيء من التهكم والتشفّي، حيث قال: «لقد ذكّرني ماكميلان بأغنية لأديث بياف (المغنية الفرنسية الشهيرة): لا تبكي».
واليوم تفيض عيون ملايين البريطانيين بالدمع فرحاً للخروج من الاتحاد. وفي الوقت ذاته يحبس الملايين منهم الدموع في عيونهم حزناً وقلقاً. فماذا بعد؟ وهل تبقى المملكة المتحدة.. متحدةً؟ وماذا عن مستقبل اسكوتلندا؟ وماذا عن مستقبل العلاقات بين إيرلندا وشمالها؟
لم يغيّر الخروج البريطاني من استراتيجية الاتحاد الأوروبي في مواصلة عملية التوسع. ولا يزال توسيع الاتحاد هدفاً أوروبياً مشتركاً. وفي مايو 2020، يفترض أن تستقبل مدينة زغرب رؤساء الدول السبع والعشرين الأعضاء في الاتحاد، إضافة إلى رؤساء دول غرب البلقان، للبحث في طلب انضمام كل من ألبانيا وجمهورية شمال مقدونيا.
تعارض فرنسا طلب انضمام الدولتين الصغيرتين والفقيرتين (يعادل دخلهما القومي معاً الدخل القومي لقبرص) باعتبار أنهما ليستا مؤهلتين بعد للانضمام إلى الأسرة الأوروبية، لكن لألمانيا وجهة نظر أخرى معاكسة. فالاتحاد الأوروبي يتطلع إلى أن يضم كل الدول الأوروبية –صغيرها وكبيرها- بحيث يتحول إلى قوة سياسية واقتصادية وعسكرية تستطيع الوقوف في وجه الدول الكبرى الثلاث: الولايات المتحدة وروسيا والصين.
وبدلاً من أن تكون الدول الأوروبية في صراعاتها السياسية وفي خلافاتها القومية مصدراً للصراع (الحرب العالمية الأولى والثانية،) فإنها تتطلع إلى أن تكون الركيزة الدولية الرابعة للاستقرار العالمي.
هناك خمس دول أوروبية تنتظر البت في طلبها عضوية الاتحاد، هي ألبانيا وكوسوفو والبوسنة وشمال مقدونيا، إضافة إلى تركيا. وقد تبنّت ألمانيا الطلب المقدوني وتمكّنت من تسويقه بين الدول الأعضاء للموافقة عليه. أما طلبات الدول الأخرى فلا تزال معلقة. وهنا تجدر الملاحظة إلى أن المسلمين في مقدونيا الشمالية يشكلون أقلية صغيرة، بينما يشكلون الأكثرية الساحقة في الدول الأخرى. كذلك فإن طلب انضمام صربيا (الأرثوذكسية) لم يبتّ فيه بعد رغم أنه تحت الدرس منذ عقد من الزمن. أما تركيا فلم تخفِ مشاعر الملل من الانتظار، ذلك أن طلب انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي مطروح على طاولة البحث منذ عام 1987. من هنا يأتي السؤال: هل لطبيعة التكوين الديني علاقة بموقف الاتحاد من طلبات الانضمام لعضويته؟
دفع الملل بتركيا إلى التوجه شرقاً نحو الاتحاد الروسي، رغم أنها عضو في حلف شمال الأطلسي. لكن ماذا إذا أصاب الملل أيضاً كلا من ألبانيا والبوسنة وكوسوفو؟ وماذا إذا تصرفت هذه الدول مثل تركيا؟ ألا يؤدي ذلك الى إحداث خرق في منظومة الاتحاد عسكرياً وسياسياً؟ ومن يتحمّل ثمن استدعاء الاتحاد الروسي (عبر هذه الدول) إلى قلب القارة الأوروبية؟ يفرض هذا السؤال ذاته في المطبخ السياسي للاتحاد الأوروبي. إلا ان الجواب لا يزال غامضاً حتى الآن.
حاول الرئيس التركي رجب طيّب أروغان اتّباع نهج رئيس الوزراء البريطاني ماكميلان بالاستجداء أحياناً وبالتودّد أحياناً أخرى. لكن الرئيس الفرنسي ماكرون يبدي صلابة في معارضة طلب الانضمام التركي أشد من تلك التي أبداها الجنرال ديغول مع طلب الانضمام البريطاني. وتتضامن دول أوروبية عديدة أخرى معه، مثل هولندا وألمانيا.
في عام 2004 انضمت إلى الاتحاد الأوروبي عشر من دول أوروبا الشرقية والوسطى. وبدا ذلك وكأنه تكامل وتماهٍ مع تمدّد «الناتو» شرقاً. وكأنه بالتالي استكمال للوحدة الأوروبية الأطلسية في وجه الكرملين. ولذلك أدت عملية الانضمام تلك إلى توسيع الهوة بين الشرق والغرب. وزاد الطين بلة انضمام رومانيا وبلغاريا في عام 2007، فتحوّلت الهوّة إلى وادٍ سحيق. ومع ذلك فثمة علامات استفهام كبيرة لا تزال مرتسمة حتى اليوم حول ما إذا كان هذا الانضمام يستجيب فعلاً للشروط والمعايير الأوروبية المتفق عليها، أم انه كان هدفاً بحد ذاته لاستقطاب دول أوروبية من دائرة الفلك الروسي.
لقد أعاد البريكسيت فتح ملف جدوى توسيع الاتحاد من جديد. والتململ الذي تبديه بعض دول أوروبا الشرقية، وكذلك النمسا (بعد فوز اليمين المتطرف بالرئاسة وبالحكومة)، يزيد من حجم علامات الاستفهام حول ما إذا كان بالإمكان تحقيق اتحاد أوروبي شامل. يدرك الاتحاد الأوروبي أن هذه الصعوبات أو العراقيل الداخلية تتماهى مع توجهات خارجية لا تريد أن يتحول الاتحاد الأوروبي إلى قوة كبيرة في لعبة الأمم. وهنا تلتقي مصالح ونوايا روسيا (بوتين) وأميركا (ترامب) في تحجيم الاتحاد وضبط توسعه. ومن خلال ذلك تلتقي، ربما لأول مرة، أهداف واشنطن وموسكو حول استضعاف الاتحاد الأوروبي.. قبل أن يحقق طموحه في أن يصبح قوة جيوسياسية واقتصادية كبرى. من هنا الخوف من تحويل الطموح الأوروبي بالتوسع إلى عملية استدراج للوقوع في فخ الانشقاقات والانقسامات الأوروبية التقليدية.

*كاتب لبناني