إذا ما سنحت لك فرصة أن تزور إحدى المدن الأوروبية ذات الحدود المشتركة بين بلدين، ودخلت مقهى أو مشرباً تمر الحدود فيه، فستعرف من لون الكراسي، والعملة المدموغة على المبيعات، وأنواع الشراب والأكل المقدم إلى أي البلدان ينتمي هذا الشق من المقهى، وبلا ضغينة من الجانبين، لكنْ إن كنت في قبرص بين الشمال والجنوب، وفكرت أن تطلب قهوة «تركية»، فستجد ترحيباً «مرهبا.. آفندم» في الشمال مع كأس ماء صغير، وقطعة حلوى، وفي القطاع الجنوبي سيمتنع النادل، ويقول لك باليونانية غاضباً: «لا قهوة عندنا»!
هناك مركز تجاري بين مدينة «آخن» الألمانية، و«ماسترخت» الهولندية، تم تخطيط الحدود على أرضيته، غير أن الرسالة البريدية تأخذ أياماً لتصل للعناوين في أحد البلدين، في حين يمكن توصيلها باليد في دقائق، في البلدان الأوروبية كثيراً ما يتشارك جاران من بلدين مختلفين، مثل بلجيكا وهولندا مثلاً، بيتاً واحداً بباب واحد، تجد فيه عدادين، وجرسين كهربائيين، واحد يدفع لشركة كهرباء وماء وغاز بلجيكا، والجار الآخر يدفع لشركة كهرباء وماء وغاز هولندا التي أصبح اسمها الرسمي الآن «نيذرلاند»، أي الأراضي الواطئة، في حين ستبقى كلمة هولندا عالقة في ذاكرة الناس فقط، في ذلك البيت الحدودي المشترك، والذي يُعلّق على بابه رقمان مختلفان، ويحمل عنوانين مختلفين، ورغم أن ذلك الجار يصبّح على جاره، ويمضيان كل إلى عمله مستخدماً وسائل نقل بلده، لكن لو أن الجارين عربيان، فلن يتوقفا عن الذهاب إلى المحاكم في الكبيرة والصغيرة، ويمكن أن يتخاصما لسنوات على شيء ليس له قيمة، وإلا الحريم: «عيال جارتنا دقوّا عيالي اليوم، وبكرا أنا شكّاية عليكم»، أو يمكن أن تدلق الغسيل الوسخ أمام باب جارتها، أو يمكن أن تتسابّا من نوافذ البيت، أو يمكن أن تتلصص على ما تطبخ جارتها، ولا تؤدي لها زوّارة أو تطاعمها من أكلها، ويا الله لو فيه ضرائب حكومية مختلفة، ستجدها تحنق على المسؤولين في دولتها، وتنعتهم بالحرامية، غيرة من جارتها التي تدفع ضرائب أقل، ستجد الجار يتسلح في الخفاء، ويخزّن ترسانة أسلحة، خوفاً من غدر جاره، وسيظل يتربص به، ويشك في كل تصرفاته، لذا سيبث جواسيسه وعيونه للاستطلاع والسبر.
السيارات بين الحدود الأوروبية تمر مثل البرق، لولا الرادارات، وبين الحدود العربية، يكثر التهريب، وتكثر التفتيشات، ونزع كراسي السيارة، وإطاراتها، وتوقيف سائقها شبه عار، وساعات طويلة لا تنتهي إلا بالعذاب، وتفتيش الجيوب بحثاً عن العملة والعمولة، وما أسهل التهم بعيداً عن القانون، قريباً من الرشوة، وفي معزل عن احترام الإنسان العربي.. الحدود الأوروبية غير مرئية، والحدود العربية مُعَلَّمَةٌ بالدم!