ربما كنت أريد الحديث عن بعض الدول المجاورة والتي تربطنا بها روابط تاريخية، وبعض من الجغرافيا، وعلاقات تجارية قديمة، والتي تعتقد أننا رهن رسنها، ومحكومون بسياساتها، وأننا لا يمكن أن نحيد عنها لسواها، وأننا على الدوام مسؤولون عن أبنائها الأيتام والمشردين، وأننا لا نستطيع الاستغناء عن خدماتها، صحيح أننا نتعامل بشفافية مع الحالات الإنسانية، وأننا نبذل دون شكر، ونقدم الذي نقدر ولا نقدر، وأن عطاءنا يعم ولا يبد، وأننا نؤثر على أنفسنا وأهلنا ولو كان بنا خصاصة، لكننا في النهاية غير ملزمين أن ننساق مع تطلعات أحزابهم السياسية القومية والشوفينية، والتي تتصارع على خصوصيات محلية بحتة، ووفق أجنداتهم الداخلية على حساب تعاملاتهم الخارجية، ويحملوننا جزءا من تبعات الفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي عندهم، لكنني فضلت الكتابة عن فيلم جميل ورائع بكل المقاييس، فنياً وإنتاجياً وحوارياً، وهو فيلم «الرجل الإيرلندي» من إخراج المخرج الجميل «مارتن سكورسيزي»، وبطولة بعض من عصابة المافيا الإيطالية في فيلم «العراب» بأجزائه، ويتصدرهم الثنائي الجميل الذي لا يختلف عليه اثنان «روبرتو دي نيرو، وآل باتشينو» في أداء تمثيلي رائع ومتناغم، ومعهم العجوز «جو بيشي» وسيناريو محكم «ستيف زيليان» وماكياج عالي الدقة، وتصوير ساحر، وحوار فلسفي ساخر حدّ العدم، وهو مأخوذ من رواية «سمعت أنك تطلي المنازل» لـ«تشارلز برنت»، في هذا الفيلم الطويل والذي يصل إلى ثلاث ساعات ونصف، وبميزانية وصلت 160 مليون دولار، قدم لنا الفريق تحفة فنية لا تتكرر كثيراً، مشكلة هذا الفيلم الطويل جداً أنه لم يُعد للعرض السينمائي، ولم يلتزم بالمقاييس الزمنية لصالات العرض السينمائي، فقد أنتجته واحدة من أكبر قنوات البث التدفقي «نتفليكس»، ورغم وصوله إلى كل الناس ومن خلال الوسائل الحديثة «الهواتف والآيباد والكمبيوترات»، لكن كان حرياً به أن يشاهد في قاعات العرض السينمائية الكبيرة، لما يتميز به من تقنية سينمائية عالية، وكونه واحداً من الأفلام التي تدرس في التمثيل الراقي والتلقائي، الفيلم يتحدث عن حياة محارب اشترك في الحرب، وقاسى من ويلاتها وفظائعها، وبعدها عاد ليعمل سائق شاحنة، ولكنه كان مدنساً برجس الحرب وما تغير في نفسيات البشر، فسلك طريق الغش والقتل بانضمامه إلى المافيا الإيطالية في أميركا، وبطريقة استعادة الذاكرة، يظل «دي نيرو» يسترجع قصة حياته وما تداخل فيها من لحظات حزن وفرح، وقرارات مصيرية حتى يصل إلى النهاية المحتومة لكل البشر، بعد ما لقي كل واحد من أفراد المافيا مصيره، وقدره المكتوب، إما سجناً أو قتلاً أو مرضاً، حاول في نهاية العمر أن يتقرب إلى الرب، وحاول أن يتواصل مع بناته، وحاول أن يجد باباً موارباً على الحياة القادمة بعدم دفن أو حرق جثته، حاول أن يكفر عن أخطائه، لكنه لم يحاول أن يقر بحقيقة واحدة!