الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

جذوة المكان.. "شجرة التين تُزرع في الجميرا"

2 فبراير 2007 00:24
أحمد خضر: لم تحدثني عن نفسها في أي يوم من الأيام ، لكن الأم باختصار هي الحياة ، كلمة جميلة رقيقة رائعة تجعلنا نحس بخصوبة الحياة ، وحيويتها ورغبتنا في استمرارها وتجددها ، وحين يتحدث الإنسان عن أمه فإنه يتحدث عن ملاك طاهر بالنسبة إليه ، لأنه يرتبط معها بعلاقات روحية ومادية عميقة تكسبه ملامح شخصيته ، وتكرس ذاته في الحياة والوجود لم تحدثني عن قصص ( الزير سالم ) و ( ألف ليلة وليلة ) لكنها كانت تدثرنا بثوب من العطف والمحبة والحنان ، وتغني لنا بصوتها الشجي الدافىء كي ننام في أحضانها بعيداً عن إرهاصات الواقع ومواجعه ، وكان ذلك الصوت ولم يزل أشبه بطبق الحلوى بعد غداء دسم وثقيل على النفس · لكن ليس معنى هذا أنها كانت تتخذ من عواطف الأمومة الزائدة هروباً من واقع بقيت ترفضه منذ اليوم الأول لزواجها من والدي على امتداد أربعين عاماً ، لم أرها ابتسمت في وجه والدي ولو مرة واحدة ، كانت منحازة لأولادها ، تغدق عليهم بالابتسامات الجميلة المشرقة ، وتجود بالضحكات السخية العذاب ، التي كانت تشعرنا أن الأرض ليست مسكونة إلا بابتساماتها وضحكاتها ، أبناؤها كانت تدفعهم إلى الأمام ، وتريدهم أن يركبوا الصعاب ، ويتحدوا المستحيل ، أما زوجها فكانت تعتقد أنه جرح كرامتها حين أهان والدها في الأيام الأولى من زواجها ، ولم تغفر له ذلك طيلة حياته ، باختصار كانت ترفض القهر بإباء وشمم ، ولم تستطع أن تجيد لعبة الذكاء والاحتواء مع ذلك الزوج الشرقي الذي يتربع في مقصورته ، يأمر وينهي فيطاع ، كانت أمي تحترق مرتين مرة لأنها لا تبستسم ولا تضحك في وجه أبي ، ومرة أخرى لأنها تملأ الدنيا بالابتسام والضحك في وجه الأبناء ، لم تمارس معنا سياسة الثواب والعقاب ، بل سياسة الترغيب والثواب والكرم والتحفيز والثناء ، وكل واحد منا حتى ونحن أطفال كان يصدر أوامره ، ويمارس ديكتاتوريته الطفولية على تلك المرأة العظيمة في مواصفات عصرها وزمانها ، وكانت تستجيب لنا عن رضى وطيب خاطر ، وهي تضحك من القلب ، أما نحن الأبناء فبقدر ما كنا نحب أمنا ، ونحب أهلها في تلك الأيام ، بقدر ما كنا فخورين بوالدنا ، ولا نقبل له الضيم أو الانكسار · أمي امرأة قروية ، كانت تسابق الرجال في حصاد القمح ، وقطف الزيتون ، وكان جدي يقول لهم ، من يسبقها سوف أزوجه إياها ، وكانت دائماً في المقدمة ولا أحد يسبقها ، كانت في صباها مثل الفرس ، أصالة وجمالاً وعطاء ، وما زالت حتى اللحظة رغم كبر السن ، وتبدد العمر تظن أنها كذلك ، هي ابنة الأرض الخضراء الني تلبس بوجودها ثوب الحزن أو الفرح ، تقول لي دائماً : ( إن الأرض هي روحها ) ، وهذا صحيح ، فمهما كانت الأرض غنية أو مليئة بالخيرات فإنها تكون ناقصة إذا ابتعد أبناؤها عنها أو حطوا من قدرها ومكانتها ومثلما قال أحد الفلاسفة ( الأبناء الأحرار يصنعون الوطن الحر ) إن الوطن هو الحرية ، ولا يستطيع الإنسان أن يمتلك حريته الحقيقية إلا في وطنه ، حتى أولئك الذين ابتعدوا عن أوطانهم بسبب أوضاع سياسية أو اقتصادية يظلون في أفضل الأحوال غرباء وضيوفاً ، وكان عبدالرحمن الداخل شاعراً رقيقاً لم ينس قط وهو الملك المتوج في الأندلس وطنه العربي الأول ، لم يخفت حنينه إلى الديار ، إلى الشام حيث شب ونما ، ولا إلى أهله وأحبته وذويه فيقول مناجياً دياره الأولى : أيها الراكب الميمم أرضي أقر مني بعض السلام لبعض إن جسمي كما علمت بأرض وفؤادي ومالكيه بأرض قدر البين بيننا فافترقنا وطوى البين عن جفوني غمضي قد قضى الله بالفراق علينا فعسى باجتماعنا سوف يقضي سافرت أمي إلى العديد من البلدان برفقة والدي ، وأدت فريضة الحج ، والعمرة ، وذهبت بمفردها إلى الكويت والإمارات والأردن ، لكنها دائما تتوق للعودة إلى وطنها وقريتها ، وقد زارت الإمارات أكثر من خمس مرات ، وكانت تسعد كثيراً لأنها جاءت لزيارة أولادها والاطمئنان عليهم ، ومع ذلك حين كنت أجلس معها على الشاطىء كانت تغافلني ، وتبدأ بالترويد والغناء الحنون وتبوح بمشاعرها الصادقة الدافئة للبحر ، وهو ما كان يذكرني بقول أحد المسرحيين العالميين : ( إن الإنسان كثيراً ما يجد نفسه بحاجة للبكاء ) فما بالنا بامرأة لديها أحاسيس ومشاعر مرهفة رقيقة كما الشعراء والأدباء والفنانين ، لم تكن تصنع الأعاجيب ، كانت مرتاحة لوجودها معنا ، لكنها كانت تفكر في دالية العنب ، وشجرة التين والزيتون والليمون ، والمنزل والأولاد والأحفاد الذين تركتهم وراءها ، وأعتقد أن حالة العشق والذوبان في الأرض إلى هذه الدرجة تجلب الحزن والهموم للإنسان ، ولا تدع له نافذة في حياته يتنفس منها الهواء العلوي ، لكن التخلي عن الأرض وإهمالها والترفع عنها بحجة أن الشخص أصبح موظفاً ، أو حتى صاحب شركة ، وحاصلاً على أرفع الشهادات الجامعية ، يعد تنكراً للأصل ، وتخلياً عن الهوية الوطنية ، وتقديم الأرض للأعداء على طبق من ذهب ، لذا كثيراً ما تقول لي والدتي : ( غداً حين أموت ستموت الأرض بعدي )· في إحدى زياراتها للإمارات أحضرت هدية غير متوقعة لمنزل أصدقائنا الأعزاء عبيد بن الشيخ جمعة وأولاده الذي بنوه في الجميرا على الطريقة الأندلسية ، أحضرت شجيرات من التين من بلدتنا في منطقة نابلس ، وهي البلدة المشهورة جداً بالتين بمختلف أنواعه ، منها ما يؤكل طازجاً في الصيف مثل الخرطماني والعسيلي والحماضي والسوادي ، ومنها ما يظل حتى نهاية الخريف وهو الموازي أروع وأحلى الأنواع ، وفي بيتنا شجرة من هذا النوع تعتبر أكبر شجرة في القرية يقتات منها جميع السكان ، لكنها اقتلعت هذه السنة من أجل بناء بيت جديد لأحد أشقائي رغماً عن والدتي ، التي أحست أن تاريخها كله قد اقتلع ، ومن أنواع التين أيضاً الحماري والبياضي وهو ما يصنع منه التين المجفف اللذيذ الطعم الذي يخزنه الناس ، ويأكلونه في فصل الشتاء حيث يعطي دفئاً وطاقة حرارية ، أحضرت أمي شجيرات التين وزرعتها في حديقة البيت الكائن في دبي ، وما زالت تلك الأشجار تنمو وتكبر ، وكلما ذهبت إلى هناك أتذكر أمي ، وأردد مع الشاعر محمود درويش : أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي وتكبر في الطفولة · كلما أذهب إلى شجرات التين في الجميرا أشتم رائحة أمي الطيبة ، وعطر التراب المقدس ، وأحسب أن تلك الفرس الشامخة الأصيلة ترسم لي موعداً جديداً مع الحياة ، وتجدد الفرح في القلب ، رغم كل الهموم والأحزان ، وأتخيل أن ذلك الملاك الطاهر قد عانقني ، وقبل وجهي ، وقبلت يده الكريمة ، أحس بالدفء يغمرني ، وأنا أعيش لحظات حب صادقة تحت ظلال أشجار التين الخضراء التي نقلت من نابلس إلى دبي متجاوزة المطارات والحدود والحواجز العسكرية الإسرائيلية ·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©