هناك مواقف تتمنى ألا تكون فيها·· مثل رجل عربي أو من غانا مثلاً، يسحب ابنه الذي يشبه الأم في بياض البشرة، وكأنه لا يمت له بصلة، في شارع من شوارع أوروبا، والطفل يصرخ ويبكي، فيقوم بصفعه ويزداد صريخ الابن المعاند المناحس، فتمر بالرجل عجائز مسنات، ويرين المشهد، فيلمّن عليه عباد الله، وتبلغ الشرطة بالأمر، وتحضر الجمعيات التي تناهض العنف ضد الأطفال، فتدخل في سين وجيم، وكأن الابن ابنهم، لا ابنك، وتسجل محاضر وتعهدات، وتظل تحت الرقابة الاجتماعية والمالية والنفسية أو يؤخذ منك ابنك لمدة شهرين في الحضانة الاجتماعية تأديباً لك لسوء المعاملة· هناك مواقف تتمنى ألا تكون فيها·· أن تكون حكماً بين ملاكمين من السود من الوزن الثقيل، وأنت الحكم من وزن الريشة أو الذبابة، وهم ما شاء الله، الواحد منهم زنده مثل جذع سمرة، لا يعرفون صديقاً، ولا يذكرون عدوّاً، لا الغالب من فرط فرحه سيوقرك، ولا المغلوب من فرط غضبه سيسامحك· هناك مواقف تتمنى ألا تكون فيها·· أن تكون ماراً بحارة شعبية، وتشهد معركة دائرة رحاها بين نسوان من العيار الثقيل، فتريد أن تصنع معروفاً، وتفك أزمة الرهائن الذين لا يستطيعون أن يعبروا الطريق بسلامة، نظراً لوجود المدرعتين اللتين ترميان أكثر من هدف، وتتراشقان بألفاظ نابية وخارجة عن قاموس الأدب، واللتين تزحفان حتى يضعاك في مرمى مدافعهما، و ترى حينها النسوان الحقيقية على طبيعتهن، وتقسم جهد إيمانك، ألا تسمي من رأيت من النسوان يومها، أنهن من ضلع أعوج أو جنس لطيف أو من المستضعفات في الأرض أو من القوارير· هناك مواقف تتمنى ألا تكون فيها·· أن تهبط في مطار عربي يدار بخبرة بلغارية، حسب النظام الهندسي الروماني، وعلى الطريقة الروسية، وحسب التوقيت الألباني، وهناك من يشتبه باسمك، وأنك ضمن الفئة المناوئة للتيار الإصلاحي العسكري والهادف إلى دحر الاستعمار والقوى الإمبريالية في المنطقة، ويشك أن لك أعمالاً هدفها تخريب الاقتصاد الوطني والبنية التحتية التي سهرت على إنشائها قوى التحرر وحركات المد النهضوي، وبعد تقليب دفاتر الخضرجي القديمة، وأوراق البقال العتيقة، لم يجدوا شيئاً يدينك، ولا يدين توجهاتك، ولا تملك تطلعات لقلب نظام الحكم، ولكي لا يظهروا ''الحكومة ورجالها'' غلطانين، يصّر البيروقراطي المتكلس والمتكرّش أن تقيم كم ليلة في ضيافتهم الـ ''الخمسة أحذية'' رغم أن أكتافهم تلمع من النجوم· هناك مواقف تتمنى ألا تكون فيها·· أن تكون ضمن جوقة مثقفين في ضيافة زعيم قبيلة عربية، وبعد أن تطرح النار أعوادها وتصبّ القهوة زلالها وتدور على الضيوف ويفرح القوم بلقاء سيد البرّية وزعيم القوى التحرريّة ومخطط الاتحاد العالمي من سمرقند إلى أفريقيّة، وفي ساعة ضحك الزعيم وفرحه العميم تريد أن تتميلح وتبرز مواهبك النفاقية وآراءك الثقافية وتقوم واقفاً ثم تعتدل ثم تجثو على ركبتيك وتتحدث عن آراء الزعيم الحداثية ومنطقه الفلسفي وأعماله التخريبية وجنوحه أن يجعل من جمال العالم سفناً حربية ومن صحاري العالم أنهراً مائية ومن قوى العالم الرجعية أنظمة ثورية ومن أغاني شعبولا أعمالاً وطنية، فيضحك الزعيم ويأمر كل من في الخيمة أن ينعتوك بالرجعي والمنافق والمجامل والمتخاذل وأن كل ما قلته طعن في شخصه الكريم وفكره العظيم وأنه ما كان سيعمل هذا لولا حاجة الشعب والجماهير العليّة، وأنك خائن للقضية·· أن تكون راكباً سيارة أجرة من القامشلي إلى أدلب مثلاً وحين تصل لا تجد نقداً في جيبك والساعة بعد التاسعة مساءً وكل ما في محفظتك بطاقات ائتمان وتطلب من أبو حزام أن يأخذ أجرته ببطاقة الائتمان مثل ما هو معمول به في عواصم الدنيا والمدن السياحية فينظر لك بعين وتكون هي آخر إضاءة وآخر نور وآخر كلام وآخر تفاهم وآخر طلب وآخر توصيلة·