نكتب عن الحنين، والحنين كائن يسكننا، فقد تتغير الأماكن والوجوه، ويدور الزمان، ولكن يبقى للحبيب الأول والمكان والصديق الأول، وزميل العمل الأول، ورفيق الدراسة الأول، هؤلاء هم الذين زرعوا شجرة الحياة، في التربة الخصبة اللدنة، هؤلاء هم، الذين مشوا على القلب وقت اخضراره، وزينوا، غرفة الصدر، وعبقوا الوسائد، ولونوا سجادة العمر، وكتبوا الكلمة الأولى في أول السطر، ونطقوا الاسم، عندما كان كالزهر يلف بشذاه محيط الدهر· نكتب عن الحنين، عن الأولين، الذين سكنوا في أول السنين، ومعهم ربطنا أول عقد في حبال الذاكرة، سرنا معهم دروباً كبونا وانكسرنا، ونهضنا واستقمنا معاً، قصصنا الحكايات وسهرنا وزرعنا الأمنيات، حتى مضى كل منا إلى غايته ولكن جلجلة الحنين، وزلزلة السنين تبقى واقفة كأشجار اللوز، والسدر يهفهفها نسيم الذاكرة يخضها أحياناً ويمنحها استراحة المحارب في أحيان أخرى، ونحن ما بين هذا وذاك، نبقى العصافير ننط من غصن رهيف، إلى آخر حفيف، والقلوب مضغ يمضغها هذا التراكم والتزاحم من الذكريات يهش شغافها بعصا لا تشق الماء ولا ترد الهواء، والهوى نسج من وهج يمارس غيا ووعياً وعربة الحصان كلما جاشت لتثب تسمر الجواد مكدوداً مهدوداً مجلوداً يرفع للسماء بصراً محدقاً محملقاً طارقاً فيض الفضاء، قائلاً متسائلاً: يا ليت الزمان يعود يوماً، لكن الماء انسكب، والرمل التهب، فلا عتب أو غضب من دورة تدور، وصولة تصول، وعمر يجول، في المجهول· نكتب عن الحنين، والصباح يفتح كتاباً، والليل يلقي عتاباً والسائر في الطريق يسأل·· الأشياء تتغير لكنها لا تزول، والحنين يتطور ويتضور ويتهور ويفشي السر والعيون محور·· نكتب عنّا الحنين، نكتب عننا، إذ إننا رحلة ممتدة لا مقطوعة ولا ممنوعة رحلة على كثيب كلما تقدمت خطوات الزمن تراجعت خطوات، وهكذا تكبر الدوائر ويتدحرج العمر باتجاه المغيب، والذاكرة وحدها وعاء وإناء وفناء· يحتضن أشجار الحنين، والساقي حدث يجلو حدث والنازفات عروق من حروق وبروق صعقت يوماً، وأجهضت وهيضت وروضت حتى قال المعنّى يا دهر صممت وصمت ولجمت وسقطت بعض أوراق الشجر، وذبل بعضها ويبقى الجذر واقفاً سقفاً يظلل تربة المكان· نكتب عن الحنين والدمعة حبر، والذاكرة قلم، والقرطاس، شهوة الكلم·· والحلم، يفتح رغبة الألم، ونسأل أين القلب الذي ضم هؤلاء، من أول المكان، حتى آخر الزمان، نسأل: أين، لون الدم الذي خربش الدرب، وأسهب في تكوين الحنين، وقال كلمته يوم أزفت الآزفة وحمي وطيس النازفة، ودارت دائرة الراجفة وتوارى العمر خلف خيمته الراعفة·· يا لها من مأسفة، ناسفة خاسفة، واجفة·