حين تذكر الشاعر سركون بولص الذي غادر حياتنا يوم الاثنين الماضي يحضر الشعر الحقيقي والصميمي، البعيد عن البهرجة والصولجان وشاشات التلفاز وأوراق الصحف والكلام الكثير المبتذل والعادي· فهذا الشاعر الذي عرف الحياة جيدا وانغمس فيها حد البهجة وحد المأساة يعد شاعرا استثنائيا بامتياز منذ أن قبض على جمرة الكلام ولذة وفتنة الجملة الشعرية، كتب الشعر وعايشه وعشقه حد الانعزال فيه وله، ككائن محب وديع وقوي في آن، منه تتعلم الكثير من الفعل الإنساني الذي يأخذك عاليا كي تتسامى وتترفع عن الكثير من الصغائر، حيث يعد سركون أحد النماذج الحقيقية في العالم العربي والعالم لمعنى الشعر وتطوره ونقله من المشهدية والاستعراض والفروسية وغيره من ما يوصف به الشعر والشاعر في التراث، نقله إلى ان يكون الشعر نمط حياة ان تكتب الحياة حياتك وأن تنغمس في ورطاتك اللذيذة والفاتنة، أن تكون القصيدة مشروعك الحقيقي· شاعر لا يمدك كي تنكسر بل يشعلك ويشعل جذوة الشعر فيك بكل حب وتواضع الشاعر الحقيقي المغسول بماء طاهر ومبجلا بترانيم الكلام النقي·في عام 1996 عندما زار سركون البلاد في إحدى دورات معرض ابوظبي الدولي للكتاب، كان لي شرف أن ألتقيه مع مجموعة من الأصدقاء وبالأخص الشعراء منهم، حيث في ليل أبوظبي التقينا وتنقلنا وسهرنا؛ وفي ذلك الوقت كنت أكتب مجموعتي الشعرية الثانية وعندما تجرأت وأعلنت له عن العنوان الذي ستحمله المجموعة وهو ''غابة العيون'' ـ بالرغم من أنه تبدل إلى دون مرآة ولا قفص ـ لم يكن من ذلك الإنسان الجميل سركون بولص إلا أن بارك العنوان والمجموعة وقال بكل روح الشاعر الحقيقي: امضِ فالشعر غواية جميلة· اليوم مضى سركون بولص ربما مضى بعيدا أو قريبا، لكن بالتأكيد قد زين الحياة بالشعر·· بالتأكيد قد عاش الحياة كما يجب أن تعاش·· لم يهزمه الموت ولم يكسره، فالشعراء الكبار الحقيقيون حد الولع وطهارة النار، يدركون الحقيقة العظيمة حين يقترب الموت وحين يريد أن يأخذهم في معيته، إنهم ربما يقبلونه على خده ويذهبون به إلى أبعد مداه· يدركون أن الحياة متعة كبيرة يجب أن تعاش·· أن تعاش طبعا على طريقتهم، وأن الموت ذلك السكون المبجل يجب أن يأتي·· فبين بدء الرحلة ونهايتها تكتب التعاليم، يسبح الشاعر في ماء النهر وماء البحر يحلق في فضاء قرب النجوم والقمر، يسقي الفتنة شهدا، ويقطف زنبقة كل يوم يزين بها الصباحات، يلطف شراستها ويحيل المحبة إيقاعا للقلب· رحل سركون بولص تاركا إرثا شعريا عظيما لنا·· وبالتأكيد الأجيال لن تمر دون أن تشير إلى أن سركون بولص كان هنا، في هذه الحياة التي ستبقى فاتنة على الدوام·