شهر الصيام والغفران يتحول عند البعض إلى شهر الصراخ والتوتر وتجاوز حدود اللباقة واللياقة في التعامل مع الآخرين، ترى وجه الواحد من هؤلاء عابساً مكفهراً وكأنه عفر نفسه في تراب طيني وغاص في أتونه حتى ذوائب الرأس·· فلا تستطيع أن تكلم أحداً في الشارع، في هذا الشهر، فمن يستقل سيارة ترى في عينيه الشرر يتطاير كالشظايا ومن يمشي على قدميه يسير كأن على رأسه الطير شارداً سارحاً ومن تدخل عليه في موقع عمله يقابلك بـ''اف'' لو صدمت جداراً لأطاحت بأسمنته وحديده وحولته إلى أشلاء متناثرة ومن تحدثه عبر الهاتف يسمعك صوتاً أشبه بفحيح الأفاعي وأول ما تفكر فيه هو أن تغلق الهاتف خشية أن يقفز إليك المتحدث ويهديك ذاك ''الراشدي'' المعتق· أما المدخنون فهؤلاء حكاية ورواية تغص بفصول درامية مأساوية، لم تسمع عنها حتى في الأفلام السوداوية· المدخنون يقلبون رؤوسهم كالمضروب على رأسه يزمون الأبواز ويسبلون الجفون كمن أخذ جرعة إضافية من مخدر الأفيون، المدخنون في رمضان يتلوعون ويولولون ويطوحون الرؤوس متهالكين متهافتين إلى لحظة الإفطار وقبل الإفطار تجدهم سكارى وما هم بسكارى بل هم حيارى بين التجلد بالصبر أو محاولة أخذ أكبر قسط من النوم وإن استغرق ذلك نهاراً كاملاً دون الذهاب إلى العمل أو قضاء حاجة ضرورية تحتاجها الأسرة· في رمضان تنقلب الموازين وتختل المعايير وتقل التدابير ويصير الصيام هياماً في النوم والكسل والاعتصام بحبل الانهيارات اللا أخلاقية·· فلا أحد يحتمل كلمة من سواه ولا أحد تسقط من فيه ابتسامة تؤكد شفافية الصيام ورحمة الشهر الكريم، فالشهر الذي يفترض أن تشذب فيه النفوس وتهذب القلوب وتنفتح الدروب إلى مشارب وتكاتف وتعاضد يحدث العكس والعكس مخالف لطبيعة الاحتفاء بهذا الشهر وأيامه المشرقة بهشاشة القلوب وطراوة النفوس ونداوة الكلمة· كيف والحال ونحن ننعم بعصر ودولة من الله عليها بنعيم الخير وقد توفرت جل وسائل الراحة مما يجعل الشهر سلساً سهلاً طيعاً فلا شقاء في عمل ولا عناء في تحقيق أمل، فالأشياء ميسرة ومتاحة بين أيدي الناس ولكن وللأسف الذي لم يهنأ بهذه الخيرات الجزيلة هي النفوس، نفوس الناس المتزاحمة والمتراكمة والمتعاظمة بالأهواء والأنواء الجلل التي صفدتها بقيود وعقود من زلل وخلل شق السبيل إلى ملل من كل شيء فأصبح الإنسان لا يطيق حتى ثوبه الذي يرتديه والله المستعان من زمن حتى مثل هذه المناسبات الكريمة لم تستطع أن تجلو الصدأ من النفوس ولم تغير ما علق في الرؤوس بل إنها تزيد الطين بلة ويتحول يوم الإنسان إلى رحلة كئيبة·