يغثنا السيل العرم، ويحثنا الوقت الوظيفي، إلى السهو واللهو وعبث الأيام ولا نصحو حتى نغفو ولا ننهض حتى نرسي المراكب المتعبة والنهار يحتل الليل والليل تكويه آهات ما تكسر في النهار·· وهكذا، والرحى تدور ودقيق الأيام لا يكف عن بث نثاره هنا وهناك حتى لا تكاد العين ترى ولا الأذن تسمع ولا الفكر يهجع·· أيامنا هكذا تتوالى كأنها الساقية في جب نضب·· ولما يأتي رمضان وفي مساءاته الحادبة من شغاف إلى شغاف الغارفة من ضفاف إلى ضفاف يحلو الوقت وتتجمل البيوت بألوان وأطياف وأشكال الطعام والحلقات المستديرة تسور المكان بعقد نضيد من الأب والأم والأبناء ويعلو النشيد في أرق وأعذب تغريد وتمتد الأيادي الصغيرة متشابكة، متعانقة، متناسقة، متداولة الصحون والأطباق بلهف الفطور وشغف الحضور على مائدة واحدة افتقدها الجميع على مدار أشهر طويلة، ففي الأيام ما قبل رمضان ينشغل الناس ، الكبار في الوظيفة والصغار بالمدارس ، فلا يلتئم جمع ولا يجتمع شمل مهما فعل الناس، فلا قوانين حمورابي ولا شرائع كونفشيوس، يمكن ان تضع حداً للفوضى الاجتماعية والتشققات التي تلم بالأسر·· فالكل منهمك في يومه والكل غارق في جرف هار من المشاغل· فقط رمضان هذا الكائن الجميل، النبيل، الأصيل، يمد يده مصافحاً الجميع حاملاً باقات الفرح والمرح معبقاً الأجواء بطيب المعشر ولغة الانسجام والوئام والالتئام، يكسو الجميع بدفء نهارات مشحونة بمشاعر إنسانية لا مثيل لها مكتنز بروحانية مكثفة تسترخي على القلوب فتمنحها الرهافة والشفافية بل وتستدعي موروثاً ثقافياً هائلاً ومذهلاً يغير النسق الاجتماعي ويسير به نحو فضاءات حالمة ملتزمة محتدمة بالأصول والفصول السابقة· رمضان يهل ومعه تهل مشاعر إنسانية مفعمة قد لا نستدل على مصبها لكننا نعيش منبعها فنرتشف من زلالها ونأخذ من رحيقها فتنتشي وتنفض غبار الأيام السابقة فتتجلى كائناً جديداً تزين وتفنن في اكتساب الورع واحتساب الزمن للحظة الالتفاف والاصطفاف كبنيان مرصوص يشد بعضه بعضا·· رمضان همزة الوصل بين الناس وواو الجماعة عند مائدة التقاط الأنفاس وألف المد عند امتداد أحاديث الود وتاء التأنيث عندما تتربع الأم الحنون محتضنة الصغير وملبية طلب الكبير· رمضان كريم، حليم، سليم، معافى من درن التجاذبات البشرية·· رمضان صيام عن الكراهية والبغضاء والحقد والنكد والاختلالات الاجتماعية·