بعض مدن الدولة الصغيرة، أرادت أن تتماهى مع المدن الكبرى في البلاد، فسعت سعياً حثيثاً في التوسع في البنيان، والمنشآت لجلب رؤوس الأموال، من المشرق والمغرب، وكالعادة في الجري خلف المظاهر البراقة، فإن المسؤولين في تلك المدن مدوا الأرجل طويلة، حتى تجاوزت اللحاف، فانكشف المستور، وبانت العيوب الفاضحة، فلا يمكن لأي قرية أو مدينة أن تقف في مصاف التقدم، وهي تعاني من أبسط معاني البنى التحتية، ولا أعتقد أن أي مستثمر فقد صوابه، وضاع منه العقل ليضع شقاء العمر، وتعب السواعد، على أرض خراب، يابسة عابسة الشوارع فيها ممرات ضيقة، لا تفي حاجة البشر في السير فيها على الأقدام لا بالسيارات، والطاقة الكهربائية بحاجة إلى الحقن بالأنسولين، ليستقيم عودها، وتقوى إرادتها، على ممارسة واجبها، تجاه حاجة الناس، أما الماء، فهو شحيح ملح أجاج، لا يأتي إلا كزائر الليل، وإن جاء فهو نثات من أنابيب عجفاء صدئة من شح ما يمر في جوفها من ماء·· أضف إلى ذلك الخدمات والمعاملات التي يحتاجها أي مستثمر، اعتاد على السهولة والسيولة في التعامل· ومن يزر تلك المدن يشعر أنه يقف على أطلال، ومآثر تاريخ نسيه أهل التاريخ، ومناقب جغرافيا، توعرت فيها التضاريس، واكفهرت حتى كفرت الأرض بالجدران المتهاوية التي تتكئ عليها ظلماً وبهتاناً·· من يزور هذه المناطق التي أطلق عليها جزافاً ''مدن'' يخيل إليه أنه يمر على مضارب بني عبس، يوم كانت الخيول ترفس الأرض عارية إلا من كذبة الظفر·· وها هي ''المدنيات'' تركل الأرض لاهثة باتجاه التقدم، وسيف النصر معقوف وشعر الخيل منتوف والفارس مكتوف محفوف بمخاطر الخسائر لأنه دخل حلبة المنافسة بلا أدوات وخاض معركة التطور بلا مقدمات وحاصر نفسه، بهالة من الأمنيات، فانكسر السيف وتثلم القلم، وانداح الزمان، يشكو من تهور الإنسان وصدح الطير شاكياً من الحرمان·· نقول للطامحين إلى التطور إن المدن الكبيرة في الدولة، والتي خطت خطوات مدهشة، وحققت نجاحات رائعة ناصعة، أبهرت القريب والبعيد، هذه المدن، لم تبدأ من فراغ، ولم تشرع سفنها في وجه العاصفة دون عديد وعتات، بل فكرت قبل كل شيء وخطت وتدبرت فأسست ونجحت هذه المدن، مهدت الأرض أولاً فزرعت وحصدت هذه المدن، استفادت من تجارب الآخرين ومن تراكم الخبرات فبدأت في رفع النشيد والتغريد في سماء العمران والبنيان فالفرق شاسع ما بين المقامرة والمغامرة ففي المقامرة خسارة فادحة لا محالة، وفي المغامرة خطوات محسوبة وناجحة ·· لذلك فالمدن الكبرى نجحت والأخرى لا زالت تمص الحصى، وتلعق الماء وتستجدي النجاح ولا يأتي ولن يأتي وإن أتى يكون شاحباً جريحاً مرتعداً مهما هبت عليه مراوح التحفيز، فلا يصمد، بل هي كالميت سريرياً ينبض قلبه والعقل في غيبوبه·